ما أصعب رحيل الرجال الأوفياء في أحلك ما يمر به الوطن من ظروف يكون فيه الوطن ونحن في أمس ما يكون لوجودهم.. والأستاذ والأخ العزيز/ عبيد الحاج نموذج مشرف لأن نتباهى بفخر واعتزاز بشخصيته المرموقة بالتميز وتجربته الإبداعية والقيادية وعقله الكبير الذي ظل مسكوناً بهموم الوطن وأبنائه.
وعبيد الحاج لم يكن يرضى طيلة حياته أن يعيش على الهامش فلم نعرفه إلا متمرداً ومجاهداً للظلم والطغيان وكثير من الناس لم يعرف ما واجهه عبيد الحاج في عهد طاغية التوجيه من أساليب قاهرة لم تنل بتاتاً من ثباته وعزيمته، فالرجل كان يختزن بداخله أفكاراً وآمالاً تعانق عنان السماء لتغيير واقع الظلم والقهر الذي أصبح مع مر السنين عند الكثير، كما لو كان ذلك شيئاً من ثوابت الطبيعة.
ومع رحيله المفاجئ ليلة عيد الفطر المبارك وما ترك فقدانه من حزن عميق دام في النفس، إلا أني حاولت أن أواسي نفسي المكلومة بأن أخي وصديق عمري عبيد الحاج لم يلق ربه إلا بعد أن رأى بأم عينيه شيئاً مما حلم به قد تحقق وكتب له التاريخ والأقدار أن يكون احد ألمع وجوه التغيير في دائرة التوجيه المعنوي من خلال منصبه نائباً لرئيس تحرير صحيفة 26 سبتمبر بعد سقوط خرافات وأساطير الأولين.
ما أعظمك يا عبيد, كم حاول كهنة الطغيان كسر إرادتك فخاب مسعاهم وعشت ثابتاً شامخاً حتى حصحص الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا.
وفي ظل حزني المرير سعدت وأنا أقرأ ما كتبه فيك الرئيس الوفي/ علي ناصر محمد وشعرت أكثر بمهابة جلل الخسران الذي مني به الوطن والأهل وكل محبيك.. فكم أنت منصف أيها الرئيس فيما قلته عن الفقيد وهو وسام شرف للراحل عبيد الحاج وردفان عامة من رجل عظيم نعتز به أيما اعتزاز.
إذا كان هناك من يجهل ما مثله الصحفي السياسي المخضرم عبيد الحاج في مسيرة حياته الزاهرة بالعطاء عليه أن يقرأ ما قاله الرجل الكبير علي ناصر محمد ليعرف حق المعرفة معدنه النفيس، فقد ظل مسخراً قلمه وشاهراً له بوجه الظالمين، وهو سكرتير لتحرير سبتمبر, ثم نائباً لرئيس التحرير، كما أنه أعلن موقفه الصريح والداعم بقوة النضال للحراك السلمي الجنوبي كحق طبيعي ومشروع منذ وقت مبكر، فضلاً عن مساندته لصورة التغيير في صنعاء، والفرق الوحيد انه ظل يكتب بفكر وافق أوسع بعيداً عن لغة التخوين والتعصب مع رفضه لثقافة الكراهية في التعاطي السياسي.
لم يكن عبيد الحاج في يوم من الأيام كالذي يقتل القتيل ويحمل جنازته، وعندما يتحدث إليك أو تقرأ له تكتشف حجم الثقة التي يتمتع بها، وأتذكر كيف كان رده مدوياً حينما عاتبوه لعدم مشاركته في الانتخابات الرئاسية التي نافس فيها الأستاذ نجيب قحطان الشعبي، حيث قال: لماذا أشارك وأنا اعلم بأنها مسرحية هزلية؟.. وحينما علق احد المنافين على كلامه وبأنه لا يجوز يا أستاذ عبيد أن يصدر عنك هذا وأنت سكرتير تحرير صحيفة سبتمبر.. حينها أردف عبيد وأنا حاضر في مكتب الأستاذ عبده بورجي السكرتير الصحفي للرئيس حينها قائلاً: يا أخي مشكلتنا في الجنوب أن أجدادنا طردوا مستعمراً متحضراً، بينما نحن أتينا لهم بنظام التخلف الذي أذاقنا الويل وأنهى كل شيء جميل في حياتنا بكل أسف.
نعم هذا هو عبيد الحاج الذي كان نهراً دافقاً أراد أن يسقي تربة الوطن لتكون واحة ينتفع بخيراتها كل أبناء الشعب في دولة مدنية توفر لهم العيش الكريم والمواطنة المتساوية. ولهذا دفع بحياته من اجل حلمه الكبير ولم يكن في قناعاته أدنى أمل أن يشكو لأحد من فداحة الظلم الذي لحق به في حياته ومعيشته. وهذه هي سجيته المفعمة بالعزة والكبرياء حتى فقد أغلى ما يملك.. عافيته وصحته وظل يصارع الآمة بإرادته القوية حتى لقي ربه وهو شامخ في محراب الثبات على قيمة وقناعاته التي لا تتبدل بأي حال.
في آخر زيارة له التقيته في مكتبه وجدت ملامحه الشاحبة قد غيرت هيئته المعروفة النابضة بالإشراق والارتواء فخلته وهو يصارع المرض كالأسد الجريح وأثناء تبادل عبارات الود والاطمئنان على صحته كان كثير الثناء لصديقه العميد الركن/ علي ناجي عبيد لقلقه الدائم عليه أثناء مكوثه في المستشفى وما أحاطه من اهتمام بمشاعر الأخوة والصدق والوفاء.
(عبيد) لك الآن أن تنام قرير العين إياها الجسد الرامس في الثرى.. فأنت من زرع فينا التفاؤل في زوال الباطل والطغيان ولم تبال بأحد واليوم وقد جرت مياه كثيرة ومتغيرات مهولة، قياساً بها كنت وستظل قدوتنا حياً في عقولنا ولن تموت وسيبقى فكرك نبراساً يضيء لنا مسالك هذا الزمن حالك السواد.
ختاماً نسأل الله تعالى أن يسكنك فسيح جناته ويحيطك برحمته الواسعة انه سميح مجيب.. إنا لله وإنا إليه راجعون.
مقبل سعيد شعفل
عبيد الحاج.. رحلت كالأسد الجريح؟ 1525