مفتتح:
قال ابن القيم: قال تعالى: "ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي احسن", جعل سبحانه مراتب الدعوة بحسب مراتب الخلق, فالمستجيب القابل الذكي الذي لا يعاند الحق ولا يأباه يدعو بطريق الحكمة والقابل الذي عنده نوع غفلة وتأخر يدعو بالموعظة الحسنة وهي الأمر والنهي المقرون بالرغبة والرهبة, والمعاند الجاحد يجادل بالتي هي أحسن.
يعرف الإنسان قدر العمل بقدر ثوابه عند الله عز وجل، فمثلاً ليلة القدر، يحرص الناس على ليلة القدر لأنها تفضل ألف شهر، بدليل قوله تعالى: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ} (3) سورة القدر.. وألف شهر تساوي ثلاثا وثمانين سنة وثلاثة أشهر، وهي عند الله خير من ألف شهر, فهي عمر طويل في وقت قصير، ولكن ليلة القدر لا تأتي سوى مرة واحدة في السنة, فكيف يستطيع الإنسان أن يجعل كل وقته ليلة قدر؟.
من المعلوم أنه لا يمكن استنساخ ليلة القدر لتأتي كل ليلة؛ لأن الله تعالى قد جعلها مرة واحدة في كل عام، ولكن الله تبارك وتعالى فتح الباب لمن يريد أن يجعل وقته ولياليه وأيامه كلها ليلة قدر، وذلك من خلال بوابة الدعوة إلى الله عز وجل، تلكم البوابة التي تتضاعف من خلالها الأعمار بما تقدمه من أعمال؛ حيث يستوعب عمر المؤمن أعمارا كثيرة، ويكون وعاء الدعوة هو الوعاء الجامع لأعمال كثيرين ممن ربيتهم أيها الأخ الداعية؛ ليصب الأجر في ميزان حسناتك دون أن ينقص من حسناتهم شيئا، فمثلا لو أن رجلا كسب للدعوة ألف شخص فرصيد هؤلاء الألف سيصبح مضافاً إلى عمله؛ فسيكون كل شهر عنده يساوي ألف شهر، ولو كان من كسبهم ورباهم ألف شخص وواحد مثلا؛ لكان الشهر عنده أكثر من ألف شهر.
وإذا كان المؤمن يحرص على إحياء ليلة القدر بكل طاقته وقدر استطاعته ـ وحقيق له أن يكون كذلك ـ فإن حرصه على الاجتهاد في ميدان الدعوة سيكون بنفس الحرص على ليلة القدر، وبنفس الجد والاجتهاد الذي يكون عليه فيها؛ لما يعلمه من الأجر الذي ينتظره في الدعوة إلى الله عز وجل، حين يعيش لدينه ودعوته.
إن الناس يعيشون أوقاتهم لذواتهم بصورة فردية؛ أيامهم وشهورهم وسنواتهم فرادى، لا تشكل غير الأرقام الفردية؛ فاليوم الواحد هو يوم واحد فحسب، والشهر شهر واحد لا غير، والسنة سنة واحدة فقط؛ حيث تقف أعمارهم أياماً وشهوراً وسنوات في خانة الآحاد، لا تتجاوزها ولا تتعداها؛ ولكن المؤمن الداعية يعيش وقته لدينه ودعوته فعمره مبارك، ولأجل ذلك فأيامه تقف في خانة العشرات والمئات والألوف بعدد من يربيهم, فإذا ربى عشرة أشخاص فيومه بعشرة أيام كذلك شهره وسنته، وإذا ربى مائة فرد فيومه بمائة يوم وكذلك يحسب له الشهر والسنة؛ وإذا ربى ألفا إنسان فيومه في خانة الألوف وكذلك الشهر والسنة، وبهذا يبارك الله تعالى عمره بآلاف السنين، وبآلاف الأعمال الصالحة التي لا تنقطع أجورها إلى ميزان حسناته بعدد من كسبهم ورباهم صلاة وقرآناً وجهاداً وقيام ليل ونفقة وغيرها من الأعمال.
إن المؤمن يدرك أن باستطاعته من خلال الدعوة إلى الله تعالى أن يتحول وقته المحدود إلى أوقات مضاعفة, بل إلى أرقام كبيرة جداً في مجالات الإيمان والعمل والدعوة أيضا، فإذا كان الناس يصلون الصلاة واحدة؛ مثلاً الظهر صلاة ظهر واحدة في اليوم الواحد، فإن الداعية يصليها بعدد من رباهم لأنهم في رصيده، هذه المعادلة المهمة تجعل المؤمن أحرص الناس على الدعوة وأكثرهم جهدا واجتهادا فيها، وإذا كان الناس ينفقون ريالاً واحداً، فهو ينفق بعدد من سعى في هدايتهم تربيتهم.. إن الإنسان المؤمن حين يتذكر هذا يتحرك قدماً إلى الإمام في طاعة الله بالدعوة إلى الله عز وجل.
د. محمد عبدالله الحاوري
الداعية أوقاته كلها ليلة قدر 1917