لم يعد طفل صغير أو رجل كبير، أمياً كان أو مثقفاً, إلا ويحفظ اسم "رابعة العدوية" غيباً, لارتباطه بأحد أهم وأطول اعتصام في التاريخ البشري دون أن يؤثر فيه التشويه أو التحريض وحر الصيف وسط نهار الصائمين وغيرها من الأمور.. وبالمحصلة فـ" رابعة" باتت حكاية كل الأحرار والثائرين والشرفاء، كانت كذلك "رابعة" منذ ولادتها، وعاد تاريخها إلى الواجهة مرة أخرى منذ بدء اعتصام الأحرار المصريين في ميدان "رابعة العدوية" بالعاصمة المصرية القاهرة، ويبدو أن الأمر لن يتوقف عند هذه المحطات، فقد بات اسمها يحفظه الأحرار في عواصم عالمية مختلفة، ويرمز إلى أمور مختلفة أبرزها "الثورة على الظلم".
شعار رابعة:
كانت "رابعة العدوية" تُكنى بأم الخير وقد وُلدت في البصرة تقريباً في العام 717م وتُكنى بـأم الخـير، وهي عابدة وإحدى الشخصيات المشهورة في العالم الإسلامي. المهم في قصتها أنها ولدت لأب عابد فقير، وهي ابنته الرابعة وهذا يفسر سبب تسميتها رابعة فهي البنت "الرابعة"، وقد توفي والدها وهي طفلة دون العاشرة ولم تلبث الأم أن لحقت به، لتصبح رابعة هي عمود البيت لأخواتها في مواجهة الفقر والجوع والهزال، فذاقت "رابعة" مرارة اليتم الكامل قبل أن يتم بيعها من قبل لصوص وقطاع طرق بستة دراهم فقط دون أن يفت ذلك من عزيمتها، ومضت تواجه أمواج الدنيا المتلاطمة دون أن يمنعها من ذلك كل مصائب الدهر التي تراكمت عليها.
اختار مؤيدو الشرعية في مصر ميدان "رابعة العدوية" كمكان أساسي لاعتصاماتهم رفضاً لعزل الرئيس المنتخب "محمد مرسي" والميدان للعلم يشتمل على أربعة أمور، هي: مسجد مشهور، ومدرسة، ومستشفى، ومركز لتحفيظ القرآن الكريم.. أما الميدان فينطلق منه أربعة شوارع رئيسية.. الرقم أربعة هو القاسم المشترك في كل ما يتم الحديث عنه ويتعلق برابعة العدوية، وهي أعتقد إرادة الله تبارك وتعالى لأمر هو يريده.
بعد ساعات على الجريمة المروعة التي ارتكبها الجيش والشرطة المصرية بحق المدنيين العزل في ميدان "رابعة العدوية" وقتلهم المئات من المعتصمين، تظاهر آلاف الأتراك في مدينة "بورصة" التركية، وخطب فيهم رئيس الوزراء التركي "رجب طيب أردوغان" في زمن عز فيه الرجال، وطوال خطابه رفع يده اليمنى وقد فتح أصابعها الأربعة وضم الإبهام، مؤكدا أن ميدان "رابعة العدوية" أضحى رمزاً لكل الرافضين للانقلاب، الذي أطاح بمحمد مرسي أول رئيس مصري منتخب في تاريخ البلاد، فيما رفع الآلاف من الحشود التي حضرت اللقاء اللافتات وعليها علامة النصر، التي رفعها أردوغان بيده.. بل إن "أردوغان" تساءل خلال خطابه: هل ستصبح هذه إشارة جديدة للتعبير عن النصر في العالم الإسلامي بدلاً من الإشارة الأخرى، التي تتم بإصبعين؟.
وما هي إلا ساعات حتى انتشر شعار أصابع اليد الأربعة باللون الأسود على خلفية صفراء في مختلف العواصم العربية والدولية، وبات من أكثر الشعارات التي تنتشر عبر شبكات التواصل الاجتماعي، فخلال يومين فقط استخدمه ما يزيد عن 85 مليون إنسان عبر تلك الشبكات، ولا يزال الفيضان الذي شكله الشعار يمضي ولا يتوقف.
الكثيرون من المتخصصين أكدوا بأن إشعال "أردوغان" لشرارة "شعار رابعة" لم يكن اعتباطاً, وإنما بعد تخطيط عميق، فالجريمة التي تم ارتكابها ضد المعتصمين السلميين ساهم فيها بشكل كبير أربعة أطراف، هم: القضاء والإعلام والجيش والشرطة، كما أن الألوان التي تم استخدامها للشعار ذات مغزى عميق، فاللون الأصفر يعني أربعة أمور: الحزن، والذبول، والكسل، والموت.. تأكيداً أنها معانٍ عميقة، فالحزن على من قضى قتلاً أو حرقاً، والذبول للديمقراطية التي تغنى بها الغرب، والكسل كذلك في تقاعس حكام العرب على نُصرة المظلومين، أما الموت فأبلغ تفسير للجريمة, وجاء اختيار اللون الأسود لأصابع اليد ليزيد التأكيد على الظلم الذي وقع.
حقائق كثيرة يمكن ربطها بهذا الشعار الذي بات يحمله ملايين البشر، فمراسل وكالة الأناضول التركية كمال فيريك، زار ميدان رابعة العدوية ليلة الـ13 من الشهر الجاري، لتغطية الموضوع، فأكّد له متظاهرون أنّ هذه الإشارة بالأصابع الأربعة تذكرهم بأنّ "مرسي هو الرئيس الرابع للبلاد، بعد جمال عبد الناصر، وأنور السادات، وحسني مبارك"، إضافة إلى التميُّز عن المؤيدين للانقلاب الذي يرفعون "إشارة النصر" بأصبعين فقط.
وفي ذات الإطار لا يخفى على أحد أن مطالب الثوار كانت باستمرار من فوق منصة رابعة العدوية، تتمثل في أربعة أمور، هي: عودة الرئيس المنتخب محمد مرسي رئيساً لجمهورية مصر العربية، وإلغاء قرار حل مجلس الشورى المنتخب، وإلغاء قرار المجلس العسكري القاضي بتجميد الدستور المصري، بالإضافة إلى محاكمة قتلة الثوار الذين تظاهروا في ميادين مصر العامة.
يبدو أن هذا الشعار سيواصل نقشه في صخر العقل العالمي ليرسخ بأنه بات شعارا خالصا للإسلاميين والأحرار في مواجهة الظلم والتآمر على إرادة ومطالب الشعوب، فهذه الأيام يجري طرح مفاهيم ورموز يروِّج لها الغرب، على رأسها الديمقراطية، والإرادة الشعبية وحقوق الإنسان وأخلاق الصحافة للنقاش، فإن كانت إشارة النصر بأصبعين تم ابتكارها لدى الغرب، فإشارة النصر لدى المسلمين يتم الاتفاق هذه الأيام بأن تكون بالأصابع الأربعة.. لتبقى بذلك مسيرة "رابعة" تمخر في عباب بحر متلاطم الأمواج غير آبهة بهياجها بين الفينة والأخرى.
* صحفي فلسطيني
أيمن تيسير دلول
رابعة.. وتغيير مجرى التاريخ 1428