هل يمكن أن يتصور عقل سيناريو نجاة قائد الانقلاب وزير الدفاع المصري عبد الفتاح السيسي -وزمرته من قادة الانقلاب الدموي، سياسيين وعسكريين وحزبيين- من تبعات المذبحة الكبرى التي اقترفت بدم بارد في شوارع وميادين مصر العزيزة خلال الأيام القليلة الماضية، ولا تزال رحاها دائرة حتى اللحظة؟
(1)
لم يكن أحد يتخيل حجم الأحداث المروعة التي زلزلت مصر حتى في أشد الكوابيس سوءا: مذبحة هائلة، صور مذهلة أدمت القلوب، آلاف القتلى والجرحى في الشوارع والطرقات، فتح النار وإطلاق الرصاص والقنابل القاتلة وقنابل الغاز السام بشكل مهول ومتواصل بشع، استخدام القناصة المجرمين في محيط الميادين، إطلاق النار من المروحيات، إحراق الجثث بشكل تنفر منه كل القيم والمعاني الإنسانية، حرق وتدمير خيام المعتصمين المسالمين، مهاجمة وإحراق الكنائس وإلصاق التهمة بمؤيدي الشرعية، اقتحام وإحراق المساجد لإخفاء بعض معالم الجريمة، قطع مختلف أشكال البث الإعلامي عن ميادين الاعتصام، منع سيارات الإسعاف من نقل الجرحى والمصابين، ونشر المدرعات والبلدوزرات لسحق عظام المدنيين الأبرياء دون رحمة.
كلها مفردات متواضعة، وعينات بسيطة تحاول مقاربة حجم الكارثة التي صبت حمم نيرانها على صدور الأبرياء المسالمين في مصر، واستسهلت سفك دمائهم وإزهاق أرواحهم، في مشاهد مأساوية عزّ نظيرها في العصر الحديث.
الفاجعة التي تتجدد مشاهدها الاستئصالية بشكل يومي في مصر العروبة والإسلام أحيت همجية وجرائم التتار، وأعادت إلى الذاكرة الجرائم الكبرى التي ارتكبها بعض من ينتسبون -زورا وبهتانا- إلى صف الأمة، وخياناتهم التاريخية للقيم العروبية والإسلامية النبيلة التي تميزت بها أمتنا عن سائر الأمم، وخروجهم تماما عن دائرة التصور البشري والسلوك الإنساني.
لكن التاريخ أنصف أولئك وهؤلاء، فوصمهم بالجبن والخسة، ونعتهم بالنذالة والعار، وحفر لهم موقعهم الدونيّ الخالد الذي يليق بجرمهم وانحطاطهم، في مزابله الحافلة: مزابل التاريخ.
(2)
حين توضع المذبحة الكبرى التي جرت فصولها في مصر خلال الأيام الماضية في ميزان القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني فإنها تعتبر جرائم حرب، وجرائم إبادة جماعية، وجرائم ضد الإنسانية دون جدال.
لم أجد أشد غباء من السيسي وزمرته الذين قادوا أنفسهم بكل خفّة وسذاجة وانعدام وعي إلى المقصلة، فما جرى في مصر واضح في جرمه وبشاعته وإبادته للحق والقيمة الإنسانية وضوح الشمس في رابعة النهار، ويشكل جريمة موثقة ومكتملة الأركان بالتمام والكمال، ولا تشوب أمرها أدنى شبهة شك أو جدال.
لقد تضافرت كل الأدلة والشواهد السياسية والأمنية والميدانية على إدانة رؤوس الفتنة والانقلاب، فالتصريحات الصريحة، والأوامر السياسية والأمنية المباشرة التي صدرت عن السيسي وزمرته في الحكومة وأجهزتها الأمنية المختلفة حول استخدام القوة المميتة لفضّ الاعتصام وقتل المتظاهرين والمعتصمين المسالمين -الذين لم يثبت خروجهم عن النطاق السلمي في حركة احتجاجاتهم المتواصلة- وطبيعة التنفيذ الميداني المكشوف الذي مارس القتل الرخيص بدم بارد، وجاهر بالبطش والفجور إلى أبعد مدى، وحركة التوثيق الإعلامي والحقوقي التي أحصت كمّ وتفاصيل الجرائم المرتكبة على رؤوس الأشهاد، كلها تدمغ السيسي وقادة الانقلاب بالجرم المشهود، وتمهد لهم سبل المثول أمام المحاكم الدولية، ولو بعد حين.
ما صدر عن المنظمات الحقوقية وفقهاء القانون الدولي حتى اللحظة يُجمع على أن ما يحدث في مصر اليوم جرائم حرب، وجرائم إبادة جماعية، وجرائم ضد الإنسانية، حسب نصوص الاتفاقيات والقوانين الدولية، وأن البحث في أمرها وإمساك المحاكم الدولية المختصة لزمام المبادرة بشأنها هو مسألة وقت ليس إلا.
(3)
لا يكمن سؤال الساعة في مدى إمكانية محاكمة السيسي وقادة الانقلاب ودخولهم قفص الاتهام، إذ أن ميقات المساءلة ووقت الحساب آت مهما طال الزمن. فهل يمكن أن ينجو أحد من براثن جرائمه ضد الإنسانية، ويواصل إراقة دماء الأبرياء التي تنزف مدرارا، ثم يفر بخطيئته وينفذ بجلده دون أي حساب أو عقاب؟
قد تبدو التقديرات الخاصة بإمكانية محاكمة السيسي وقادة الانقلاب غامضة نسبيا أو غير ذات أفق واضح في المرحلة الراهنة، إلا أن ذلك لا يعني -بحال- أن موازين القوى ومعطيات الأوضاع وظروف الواقع سوف تبقى على ما هي عليه إلى الأبد، وأن السيسي وزمرته قادرون على ضمان الإفلات من سيف العدالة وسلطان القانون الدولي إلى ما لانهاية.
يُنبئنا التاريخ عن طغاة كبار كانوا والسيسي وزمرته في الجرم واستباحة الدماء سواء، فلم يمكثوا طويلا حتى احتوتهم القضبان وطالتهم يد العدالة والقصاص بعد أن ظنوا -وكثير من الظنّ إثم في منطق أهل الشر والفجور- أن رقاب العباد قد دانت لهم، وأن علوهم واستكبارهم في الأرض قد بات مسلّمة لا ريب فيها، وأنهم أبعد ما يكونون عن غضبة الحق وموازين العدالة وسنن الكون والحياة.
الأمثلة الواردة من جمهورية يوغسلافيا السابقة -حيث أرباب القمع الدموي في البوسنة والهرسك وكوسوفو- ومن غواتيمالا، والكونغو، ورواندا، وسيراليون، وغيرها من البلدان التي حوكم العديد من مجرمي الحرب فيها، ما زالت قريبة وتعطي مؤشرات بالغة القوة حول المآلات الطبيعية لمجرمي الحرب، والنهايات الحتمية للجنرالات وأهل الباطل والفجور الذين استخفوا بقدر وقيمة دماء الأبرياء، وولغوا فيها دون أي وازع من إنسانية أو ضمير.
ثمّ.. ألم يأتهم نبأ المحاكمة التي جرت مؤخرا لقادة الانقلابات العسكرية في تركيا الذين انقلبوا على الحكومات المنتخبة في الأعوام1960 و1971 و1980؟ أم أنهم يعتقدون أن قوتهم الغاشمة ستحمي عروشهم الفارغة وكيانهم المريض إلى الأبد؟ ألم يدركوا أنهم لو فروا من قبضة عدالة شعوبهم حينا من الزمن فإنهم لن يفروا منها أبد الدهر، وسيبوؤون بلعنة الله والملائكة والناس أجمعين؟
وفي كل الأحوال فإن يد العدالة ستطالهم وتقتص منهم لا محالة.
(4)
حتى اللحظة، فإن المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية "فاتو بن سودة" في واد، وما يجري في مصر من مذابح ومجازر بحق الأبرياء المسالمين في واد آخر تماما.
ما الذي تنتظره المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية للشروع في بحث جدي حول الانتهاكات الخطيرة التي تصنف ضمن جرائم الحرب، وجرائم الإبادة الجماعية، والجرائم ضد الإنسانية، بما يمكن القول معه إن ما يجري اليوم تطهير ذو أبعاد دينية ونزعات سياسية لا يمكن إخفاؤها بأي حال من الأحوال؟
وكم من الوقت سوف تنتظر الحالة المصرية كي تصحو "فاتو بن سودة"، وتستفيق من غفلتها، وتبدأ في تجميع أوراقها وحصر مستنداتها، تمهيدا لفتح ملف الجرائم التي يتواصل ارتكابها على الأرض المصرية بدم بارد وبشكل تقشعر منه الأبدان وتشيب لهوله الولدان؟
إن عدم صدور أي رد فعل من جانب "بن سودة" حتى اللحظة إزاء سيول وأنهار الدماء التي تغرق مصر يؤكد لكل ذي لبّ وبصيرة الأجندة الخفية والاعتبارات السياسية التي تعمل في ضوئها المحكمة الجنائية الدولية، ويضع المحكمة ذاتها -المنوط بها تحقيق العدالة وإنفاذ القانون الدولي- في قفص الإدانة الصريحة والاتهام المباشر.
هل تنتظر "بن سودة" أدلة دامغة، وشواهد حية، وتوثيقا أصيلا، أكثر مما يعرضه ويفرزه ويحفل به الواقع المصري الراهن وميادينه الدامية؟
يقينا، فإن المحكمة الجنائية الدولية سوف تتحرك، عاجلا أم آجلا، مسكونة بضغط الواقع المصري المتفجر، لكن كل يوم تأخير من شأنه أن يشوه صورتها أكثر فأكثر، ويهدم مزيدا من مصداقيتها التي تضررت بفعل عدم موضوعيتها وانتقائيتها الفجة بشأن القضية الفلسطينية والقضايا العربية والإسلامية التي تتحكم في مسارها وملابساتها الدول الكبرى.
(5)
السؤال الأخطر الذي يرخي بظلاله السلبية القاتلة اليوم: أين موقف الجامعة العربية؟ وأين الموقف العربي المشترك تجاه ما يجري من تطهير ومذابح داخل مصر، التي تشكل أساس الجامعة وركنها المنيع؟
منذ اللحظة الأولى للأزمة المصرية بدا أن قطر وتونس والمغرب تغرد خارج السرب العربي الرسمي الذي اصطف بشكل شبه تام خلف عزل مرسي، وأيد الانقلاب الذي نفذه الجيش المصري.
وهكذا، لم يصدر عن الجامعة أي موقف رصين، يدافع عن الشرعية الدستورية والتحول الديمقراطي في مصر، وانحازت معظم الدول ضمن إطار الجامعة إلى مواقفها الخاصة وأجنداتها السياسية المعروفة التي تكنّ للإسلاميين البغض والعداء.
لكن الموقف الأبرز في إطار الموقف العربي الرسمي تمثل في الموقف الثلاثي المعروف: السعودي والإماراتي والأردني، الذي عمل ضمن إطار المخطط المرسوم لإسقاط مرسي والتجربة الإخوانية الحاكمة، وأرسى الأرضية الخصبة والأساس المتين للمجازر الهائلة والمذابح الكبرى التي يجري تنفيذها داخل مصر حاليا.
ليست هذه المرة الأولى التي تتنكب فيها الجامعة العربية عن دورها "المحنّط" المنصوص عليه في نظامها وميثاقها الداخلي، فالجامعة لم تكن مشروعا سياسيا عربيا حقيقيا للدفاع عن مصالح الأمة وقضاياها الكبرى في يوم من الأيام.
ومن هنا، لم يكن مستغربا أن تنأى الجامعة العربية بنفسها عن شلالات الدماء النازفة في مصر، وأن تمتنع حتى عن مجرد إدانة الإجرام وسفك الدماء البريئة هناك على المستوى الشعاراتي، وكأنّ الأرواح التي تزهق في ربوع مصر ليست أرواحا عربية على الإطلاق.
ما يجري في مصر اليوم شكل كفرا جديدا بالجامعة العربية -التي منحت القاتل شرعية قتل أبناء شعبه دون أن يرمش له طرف- وبما يسمى المواقف العروبية والقومية "الزائفة" التي أصموا آذاننا بها حينا من الدهر.
آلاف المصريين يقتلون اليوم للأسف الشديد لا بسلاح مصري فحسب، بل وبسلاح وتأييد عربي أيضا.
(6)
أما عن موقف المجتمع الدولي وأرباب الديمقراطية إزاء أحداث المذبحة وفصول الانقلاب، فالأمر ليس بحاجة إلى كثير تعليق وبيان.
لم يكن السيسي وقادة العسكر ليقدموا -ابتداء- على تنفيذ الانقلاب لولا الضوء الأخضر الأميركي بشكل خاص، والدعم الغربي بشكل عام، وما كان لهم أن يمارسوا ساديتهم وفاشيتهم بحق الأبرياء المسالمين لولا المخطط المحبوك الذي تلعب العديد من أطراف المجتمع الدولي دور البطولة فيه، بأشكال ووتائر مختلفة.
في عُرف أرباب الديمقراطية الغربية فإن الشعوب العربية ليست ناضجة ولا مؤهلة بعد للحكم المدني والاحتكام إلى منظومة القيم القانونية والدستورية. وهكذا، فإن الديمقراطية -في فهمهم- لا تصلح فقط إلا للاستخدام الغربي، والعرب والمسلمون منها استثناء، وما يجري اليوم يجسد أردأ ألوان النفاق السياسي، ويشكل محاولة غربية لنفض اليد من الدماء المصرية البريئة ليس أكثر.
وكما سقطت الجامعة العربية والمنظومة العربية الرسمية في مستنقع الدماء المصرية البريئة، فإن المجتمع الدولي وأرباب الديمقراطية الغربية سقطوا -بكل جدارة وامتياز- في ذات المستنقع، ولن يقوى أو يجرؤ أحد من أهل العدالة والإنصاف على رفع شعار الديمقراطية والدعوة إليها في ثنايا الواقع المصري بعد اليوم.
مجمل القول: معركتنا اليوم هي معركة محاكمة السيسي وقادة الانقلاب الغاشم، كي يأخذوا جزاءهم العادل ويكونوا عبرة لمن يعتبر.
الجزيرة
مؤمن بسيسو
متى يُحاكم السيسي؟ 1343