كان من المتوقع أن تكون مصر هي الرابح الوحيد من رياح التغيير التي هبت على المنطقة العربية قبل عامين في نطاق ما اصطلح على تسميته بـ (الربيع العربي) بحكم الوعي الذى يتمتع به أبناء هذا البلد والمكانة التي تتبوأها مصر في الخارطة الإقليمية والدولية وزعامتها للوطن العربي قبل أن تنصرف غفلة أو استدراجاً عن هذا العمق وتفرط بتلك الزعامة في مقابل رضى واشنطن وعواصم الاتحاد الأوروبي عنها.. إلا أن تلك التوقعات قد تلاشت وتبددت تماماً فجر يوم الأربعاء الماضي والذى بدأت فيه قوات الأمن المصرية فض اعتصامي أنصار جماعة الإخوان الذين يطالبون بإعادة محمد مرسي إلى كرسي الرئاسة حيث دخلت مصر مع حلول فجر ذلك اليوم الدامي نفقاً مظلماً لا يعلم إلا الله أين سينتهي وعلى أي شاطئ سيرسو خصوصاً اذا ما ظن أي من طرفي الأزمة أن بوسعه حسم الأمور لصالحه عن طريق العنف واستهداف الأخر ولم يضع في قاموسه أن العنف لا يولد إلا العنف وان الحرائق اذا ما اشتعلت فإنها التي ستحرق الجميع بما فيهم أولئك الذين ينفخون في كير الأزمة ويغذون نار الفتنة في هذا البلد العربي الذى وصل فيه الاستقطاب حداً خطيراً كافياً بتمزيقه وتفتيت نسيجه الاجتماعي ووحدته الوطني.
ولان لا احد يمتلك تصوراً واضحاً لما هو قادم وكيف سيجري التعامل معه.. فان ما يبدو واضحاً من أي تحليل للوضع الراهن في مصر هو أن الإخوان المكلومين في ثورتهم التي يرونها ضاعت وفي شرعيتهم التي يجدونها قد خطفت وفي دماء لهم سالت هدراً وان كان من حقهم أن يتألمون ويجأرون بالشكوى وهم يشعرون انه قد غدر بهم وانهم من صاروا يوصمون بالإرهاب ويوصفون بالإرهابيين مطالبون في وضع ملتبس كهذا بتحكيم العقل اكثر من أي طرف أخر وان لا ينشغلوا بالنتائج التي أحاقت بهم على حساب إغفال المسببات التي أدت بهم إلى مثل هذه النتيجة المؤلمة والتي ما كان لها أن تكون بمثل هذه القسوة التي يتجرعون مرارتها كالعلقم لو انهم ادركوا أن وصولهم إلى السلطة قد جاء في مرحلة مفصلية غير مسبوقة في التاريخ المعاصر أعقبت اربع مراحل زمنية سيطر فيها العسكر على الحكم دون منافسة من أي جماعة سياسية أو مدنية وان مرحلة بهذه الحساسية كانت تقتضي منهم الكثير من المرونة واستيعاب كافة الأطياف والمكونات السياسية والحزبية التي كانت تتطلع إلى أن تكون شريكاً فاعلاً ومؤثراً في التأسيس لمرحلة بناء الدولة الجديدة في ظل حكم مدني يستوعب الجميع بصرف النظر عن خلافاتهم وقوة كل طرف منهم في الخارطة الاجتماعية .
ولعل البعض مازال يتذكر أنني في موضوع سابق نشر قبل عدة أيام في هذه الصحيفة قد أشرت إلى أن على الإخوان في مصر الذين وصلوا إلى السلطة بعد معاناة ونضال دام اكثر من ثمانية عقود أن يستفيدوا من أخطاء الأخرين لا أن يكرروا نفس الأخطاء ويزيدون عليها بأخطاء جديدة ولو انهم استوعبوا تلك الحقيقة لغلبوا الحكمة على السلطة وفهموا أيضاً أن التحول من الحكم العسكري إلى الحكم المدني ليس عملية سهلة وان الواقع في مصر ليس منفصلاً عن معظم الكيانات العربية التي مازالت تحكمها سلطة العسكر وقبعات جيوشها التي تبدأ بإطلاق الرصاص اذا ما رأت أن من يتربعون على كراسي الحكم يسيئون الانقياد أو يحيدون عن الطاعة أو يتذمرون من تقاسم النفوذ مع قاداتها وضباطها أو يسعون إلى احتكار السلطة لأنفسهم ولتجنبت أيضاً جماعة الإخوان تلك المعارك التي خاضتها على عدة جبهات مع القضاء والإعلام والعلمانيين والقوميين والأزهر والكنيسة ومراكز النفوذ في الجيش والذين تحولوا جميعا إلى جبهة واحدة في مواجهة الجماعة.
ولاشك أن اكبر خطأ ارتكبه الإخوان هو دخولهم في صراع مرير مع كل هذه الأطراف وانهم من فكروا في السلطة اكثر من تفكيرهم ببناء برنامج التوافق المجتمعي الذى من شأنه تحويل الصراع من صراع على مصر إلى صراع من اجل مصر وترسيخ ثقافة الديمقراطية وأركان الدولة المدنية الحديثة وهو ما سهل لخصومهم النيل منهم وتثوير الناس عليهم إن لم يؤدِ ذلك إلى تكاتف الكثير من القوى في الداخل والخارج من اجل إزاحتهم من السلطة كل لغاية في نفسه.
واللافت أن جماعة الإخوان قد بالغت كثيراً ما بين أربعاء الـ 3 من يوليو وأربعاء الـ 14 من أغسطس في خطابها المناوئ لقيادة الجيش, الأمر الذى استغلته القيادات العسكرية بإظهار جماعة الإخوان وكأنها في مواجهة مباشرة مع الجيش وان هدفها ضرب وحدة الجيش المصري الذى يعتبره البعض الحائط الأخير لمصر والعرب بعد تصفية الجيش العراقي وفقدان الجيش السوري لعناصر قوته.
قد يتساءل البعض لماذا التركيز على أخطاء الإخوان فيما هم الضحية وليس الجلاد والمعتدى عليهم وليس المعتدين وهو تساؤل وجيه من الناحية النظرية, لكنه يصبح بلا معنى اذا ما اقتنعنا أن المجتمعات العربية مازالت حتى اللحظة تفتقد الوعي بقضايا الديمقراطية واصلها القبول بالاختلاف والتكامل في اطار التوازن الذى تمليه متطلبات بناء الدولة المدنية التي تتنافس فيها الأحزاب والنخب السياسية في البرامج بعيداً عن التخوين وإقصاء الأخر وتهميشه.. وبفعل غياب هذا الوعي فقد ظلت الصراعات السياسية والحزبية هي العامل الأبرز في المشهد العربي مما جعل من استدعاء الجيش يتكرر في الكثير من الحالات لفك الاشتباك بين المتصارعين السياسيين الذين يريد كل منهم اجتراح وطن على مقاس.
وفي كل الحالات فان من الواقعية أن لا تترك جماعة الإخوان للغضب أن يدفع بها إلى تدمير نفسها وتاريخها أو أن يحجب عنها الرؤية السليمة التي تمكنها من إعادة تقويم ذاتها والاطلاع بدورها في حماية مصر من مؤامرة كبرى تسعى إلى إسقاطها في مستنقع الفوضى والعنف والتمزق بوصف الإخوان جماعة نخبوية ليست مبتورة الجذور عن الواقع المصري وانها التي لن تستطيع إعفاء نفسها من المسئولية اذا ما انهار هذا البلد أو خرجت الأوضاع فيه عن السيطرة.
والمزعج أن يصبح الخيار الوحيد المتاح أمام أكبر الدول العربية هو الاختيار بين الاستبداد والفتنة أو الانتحار على بوابات قصر الرئاسة.
علي ناجي الرعوي
مصر بين العسكر والإخوان!! 2289