لو يعلم الإنسان أنه ميتٌ لا محالة، وأنه سيغدو جسداً لا روح فيه، ولا أنفاس تدخله، ولا حرارة تدفئه، وأن صورته المرفوعة ستسقط، وصوته المهيب سيخفت، ويده الطويلة ستكف، وعصاه الغليظة ستكسر، وأن بريق عينيه سينطفئ، ونضارة جسده ستذوي، وأن الدود سيسكن جسده، وسيأكل لحمه، وسينخر عظمه، وسيبلي جسمه، لو يعلم هذا الإنسان المتغطرس أنه مهما كان قوياً فسيضعف، ومهما كان كبيراً فسيصغر، ومهما كان سليماً فسيصيبه السقم والألم، وسيسكنه الوجع والحزن، وأن غناه وثراءه لن يدوم، وأن جيوبه العامرة سيأتي يومٌ وتصبح فيه خاوية، لا شئ فيها مما يسلب العقول، ويضعف النفوس، ويشتري الضمائر، ويميت القلوب، وأن صحته لن تبقى، فلن يبقَ فاره الطويل، شديد القبضة، عنيف الضربة، سريع الخطوة، قوي البطشة، هياب الهيئة، بهي الطلعة، ساحر البسمة، ولا حلو الكلمة، وأن عزوته لن تطول، وعشيرته لن تبقى، فصحبته ومن يلتف حوله عنه سيتخلون، وله سيتركون، واسمه قد ينسون، وعن شخصه قد يعرضون، وبتاريخه سيخجلون وسيستحون، وأنه إن كان مسنوداً فسيتخلى عنه سنده، وسينزع العباءة التي تستره وتظلله، والتي تحميه وتمنعه، وأنه لو كان محمياً فسيرفع يوماً الغطاء عنه، وسيخضع للقانون، وسيحاسبه الناس، وسيسأله المظلومون، وسيأخذ الحق منه المحرومون والمعذبون، ولن يسامحوه على صغيرٍ أو كبيرٍ قد ارتكبه ظلماً في حقهم.
وإن كان مقرباً فغداً ستبعده الأيام، وسيطويه القادمون الجدد، والمقربون الأقرب، وأصحاب الحظوة الأكثر، فلو علم أن الظلم لا يدوم، والسطوة لا تبقى، والسلطة لا تخلد، وأن الصغير يكبر، والضعيف يقوى، والمظلوم ينتصر، والحق يكبر وينتصب، لو علم أن كل هذه البهارج والزخارف والزينة، والأبهة والعظمة والكبرياء، كلها سراب ووهم، فلو كان عاقلاً فلن يقبل بظلمٍ أو اعتداء، ولن يسكت عن بغيٍ أو فساد، ولن يرضى بفوضى أو اضطراب، ولن يكون نصيراً للظالمين، وحامياً للفاسدين، وسنداً للضالين المضلين، ولن يعطل القانون، ولن يغير اللوائح والنظم، ولن يبدلها خدمةً لمصالحه، أو نفعاً لمعارفه، أو نصرةً لمن يخدمه، أو ثمناً لمن عمل بوقاً له، ممسحةً لأخطائه، ومداساً لأقدامه، بل سيكون أقرب إلى الحق، صادقاً مع ربه، ووفياً لشعبه وأهله، وعادلاً بين رعيته، يحاسب القريب قبل الغريب، ويعيد الحق إلى البعيد قبل القريب، ويكون هو بوابةً الحق وعنوان العدل.
اللهم إلا إذا كان وهو قائد المسيرة، ورائد العشيرة، رأس الفساد، وعنوان الخراب، وأس البلاء، وصانع الفوضى، ورافع لواء الظلم، عندها نقول "لاحول ولا قوة إلا بالله"، و"إنّا لله وإنّا إليه راجعون"، لكن بقوةٍ لا بضعف، وبعزمٍ لا بخور، وبإرادةٍ لا بتسليم، نزلزله ومن معه، ونطرده ومن سانده، ونحاكمه ومن ناصره، ونعاقبه من ساعده، فلا صمت عن ظالم، ولا سكوت على بغي حاكم، ولا قبول بحرمان مسؤولٍ ولو برر وفسر، أو حاول بلباس المقاومة أن يتدثر، وبثوب الشهادة أن يتستر، فهؤلاء الذين تغريهم القوة، وتبطرهم النعمة، وتنسيهم الدعة، لا علاج يشفيهم، ولا دواء ينسيهم، غير قوةٍ تقمعهم، وسوطٍ يجلدهم، وقضبانٍ تحصرهم، وسجونٍ تحجزهم، أو موتٍ يغيبهم، يخلصنا منهم، ويريحنا من وجودهم، يكون لهم عقاباً ولغيرهم ولمن سيأتي من بعدهم درساً، لمن أراد أن يتعلم، وكان صاحب رأيٍ سديدٍ وعقلٍ رشيد.
فلا استثناء لأحد، ولا تجاوز لمسئولٍ، ولا تمييز في الحساب، أو مفاضلة في السؤال، إكراماً لمنصبٍ أو تقديراً لشخص، أو تقديساً لقضية، أو حرصاً على غايةٍ أو هدف، والحاكم رئيسٌ وملك، وأميرٌ وشيخ، وقائدٌ ووزير، ورئيس حركةٍ وأمين عام حزب، وهو إمامٌ ومرشد، ورائدٌ وسفير، ومنتخبٌ ومعين، وهو أبٌ وأخٌ كبير، ومقدمٌ ومختار، ومنسقٌ وعريف، ومكلفٌ ومأمور.
د. مصطفى يوسف اللداوي
وهم الحاكم ووهن الإنسان 1186