ميَّز الله أمتنا الإسلامية بقيامها بفضيلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ما جعلها خير أمة أخرجت للناس (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) [آل عمران: 110]، وجعل الله علماء هذه الأمة شموس الحضارة، وغيث الشعوب ولسانها الناطق بالحق، لما آتاهم من علم وخشية، فكانوا دائمًا هم قلب الأمة النابض بالإيمان، وعقلها المفكر الذي يعي واقعه.
وعلى مدى التاريخ الإسلامي كله كان جل العلماء المسلمين قائمين بالحق، لا يضرهم مَن خالفهم، باستثناء قلة من كل جيل انسلخوا من آيات الله، فداهنوا السلاطين، وأحلوا ما حرَّم الله رغبةً في حوز ما لديهم من دنيا ومتاع، لكن التاريخ يشهد أن علماءنا كانوا أشد الناس خشيةً وأكثرهم جهادًا، وكانوا دائمًا في صفِّ الأمة، يدفعون عنها جور الجائرين وأذى الجبارين.. يُحكى أنه لما تحالف الصالح إسماعيل مع الصليبيين، تصدَّى له سلطان العلماء العز بن عبدالسلام، فحرّم ذلك، فاعتقله إسماعيل، ثم بعث إليه بعد ذلك مَن يستلطفه وهو في سجنه يقول له: بيني وبينك أن تعود إلى مناصبك وما كنت عليه وزيادة، شرط أن تنكسر للسلطان وتقبل يده لا غيرَ، وهنا قال ابن عبدالسلام: "والله يا مسكين ما أرضاه أن يقبل يدي فضلا أن أقبل يده، يا قوم أنتم في واد وأنا في واد، الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاكم به".
هذا صنف العلماء الذي أشاد الله به بقوله: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} [فاطر: 28]، وهم كما قلت جل علماء الأمة، وملحها، وحفظة الدين ورعاة العدل والحق.. أما الصنف الآخر فهم علماء السوء الذين قال الله فيهم: { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ (177)} [الأعراف]، وقال تعالى: { مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5)} [الجمعة).
فهؤلاء لا يستحقون لقب علماء؛ لأنهم اتبعوا أهواءهم فضلوا وأضلوا، وغووا وكذبوا بآيات الله فلم يك ينفعهم علم، رغم ما يحملونه من قرآن وحديث وفقه وسيرة وغيرها، وما كان الله ليهديهم أو يبارك في علمهم وهم قد زاغوا وكذبوا على الله ونسوا حظًّا مما ذكروا به.. وهؤلاء من قال فيهم الشاعر: يقبل راحة الطاغوت حينًا ويلثم دونما خجلا نعاله ولقد صُدم الناس جميعًا لما استعان السيسى الانقلابي بشيخ الأزهر ليبرر له جريمته، وليفتيه بما ليس في كتاب الله أو في سنة رسوله، وليهدر حقوق ملايين المسلمين بكلمةٍ منه، ولما سأله السائلون عن هذه الفتوى الحرام أجاب: "لقد اخترت أخف الضررين"، والحقيقة أنه اختار ما اختاره العسكر، وأجاز لهم اعتقال الرئيس المسلم الشرعي المنتخب، وسفك الدماء وتلفيق التهم للأبرياء، وتكميم الأفواه، وحرب الدعوة، وبدء التحرك لإلباس مصر لباس العلمانية القذرة.
هذا هو أحمد الطيب شيخ الأزهر، مفتي الانقلابيين الذي يجلس الآن على الكرسي الذي جلس عليه من قبل نجوم زاهرة، حاربوا المحتلين، وتصدوا للطغاة، وجاهدوا فى الله حق جهاده حتى جاءهم اليقين، فما لانوا لمستبد وما خضعوا لجبار، والعهد قريب بسلفه الشيخ جاد الحق الذي تحدَّى المخلوع الفاسد في أكثر من موقف، آخرها ما كان متعلقًا بمؤتمر السكان الذي انعقد بالقاهرة؛ حيث قال له ولوزرائه كلمته الخالدة "تشلُّ يدي ولا أوقع على ورقة تجيز هذا الحرام".. ولقد حكى لي أحد الدعاة أنه شكا له يومًا من كثرة اعتقاله وتعذيبه من جانب ضباط أمن الدولة بالجيزة، فما كان منه إلا أن رفع سماعة الهاتف وطلب وزير الداخلية وقال له: "لم كلابك يا فلان، لم كلابك"، فما سمعنا عن الطيب موقفًا واحدًا من مثل هذه المواقف المفعمة بالمروءة والإيمان، بل سمعته بأذنيّ يصف الحزب الوطني بـ"القمر"!!؛ حيث أجاب إحدى المذيعات عن سؤال سألته إياه: كيف تنظر إلى الأزهر وأنت شيخه وإلى الحزب الوطني وأنت عضو لجنة سياساته، قال لها: "هذا شمس وذاك قمر".. إذًا ليس غريبًا على هذا الرجل أن يحل الحرام، وأن يفتي بجواز الانقلابات، وأن يستبيح القتل، وبدلاً من أن يلوم الجاني في المذابح المتكررة في الحرس الجمهوري ورمسيس وطريق النصر وغيرها، سمعناه يتحدث عن حرمة التعرض للعسكر بأذى، وهذا ما جعل أهل قريته يتبرءون منه، لهذه المواقف المخزية ولغيرها من المواقف التي لا تتفق مع جلال منصبه.
واستعان الانقلابيون كذلك بالمفتي السابق على جمعة للصلاة بهم، والخطابة فيهم، لإلباسهم ثوب الشرعية، ولم يكتف بذلك بل أحل كما أحل صاحبه كل ما يفعلون.. وسأل الناس: أين المفتي الحالي؟ ولماذا لم يستعن به العسكر واستعانوا بالسابق؟ وترددت وقتها أحاديث عن تحديد الإقامة الجبرية للمفتي الحالي لرفضه ما فعله الانقلابيون الدمويون، وأنهم استعانوا بالأول لأنه ليس لديه حرج في الفتوى بكل ما يرغبون، ولِمَ لا وهو الذي زار إسرائيل في أواخر أيامه في دار الفتوى، متحديًا بهذه الزيارة الحرام أمة بأسرها، وهو الذي أحلَّ لمبارك قتل المعارضين وأشاد باستخدام قوات الأمن القوة ضدهم، واصفًا إياهم بـ"الأوباش الذين تجب تصفيتهم جسديًّا وضربهم بكل قوة ولا يجب أن نتعاطف مع أناس لوثوا أيديهم بدم المسلمين".
إذًا الانقلاب الفاجر كما استعان بسياسيين موتورين وطائفيين حاقدين لفض الشرعية وإعلان الحرب على التيار الإسلامي، استعان بعلماء عُرفوا بخروجهم عن إطار "علماء الأمة" الذائدين عن حياضها المدافعين عن شريعتها.. وهكذا لكل انقلابي دموي خائن مفتٍ سوء يحلل له جرائمه ويصور له الحرام حلالاً ولو على طريقة (أخف الضررين).
عامر شماخ
لكل انقلابي مفت يحلل له جرائمه 1320