على غير العادة، يأتي رمضان ليختار من أحبتنا وفنانينا واسطة العُقْـد وأجمل البسمات.. نجوم فكاهية في شهرنا الكريم تغيّبها قبل أوانها سهام القدر ومشيئة الرحمن الذي لا راد لقضائه.. إنا لله وإنا إليه راجعون!
في مثل هذه الأيام المباركة نتذكر فناننا المثقف والكوميدي الشهير عبدالكريم الاشموري الذي اختطفه الموت وهو في قمة النجومية وعطاء الشباب، إثر نوبةٍ مفاجئة أثناء انهماكه في تصوير(عيني عينك) مع رفيقيه محمد الحبيشي وفضل العلفي، ملتهمة منه القلب والكلى والدماغ.. ليرحل قبل أوانه، ويودع العمل قبل أن يكمل تصويره، تاركاً غصة في قلوب أطفاله وأهله ومحبيه، وفراغاً كبيراً لمسناه في شاشاتنا الرمضانية التي تكاثر عديدها وتضج بكل شيء، إلا أعمالاً بمستوى إبداع الأشموري- فاكهة رمضان- عليه رحمة الأبرار!
وها هي الأقدار قبل يومين تختطف (سام المعلمي).. شاباً بعمر الورد وعطر الزهر وبراءة الأطفال.. كان مشروع نجم جديد قادم إلى الساحة بقوة- لم يتركه الأوباش يكتمل!
في جوف الليل أثناء مروره بأمان الله مع أصدقاء، على متن سيارتهم، وفي شهر كريم تُصَفّـد فيه الشياطين، داهمهم قِطاع قبَـلي ربما نسي رمضان تصفيده!!.. رفضت السيارة التوقف في ساعةٍ كهذه، لتلحقهم رصاصة غادرة، التقطت رأس سام!
اغتالته أصابع الظلام- حمالة الحطب، مدمنة النَصَع.. هي ذاتها، نعم، ذات الأيادي التي تغتال كل جميل في هذا البلد، وتطفئ كل بصيص، ولا تتركنا نفرح بجديد، أو نستمتع ببارقة أمل أو لحظة ضوء، حتى تئـدَها!!
سام كان شاباً آسراً، خلاصة ابتسامة، بساطة، وداعة، وخفة ظل تخترق قلبك بلااستئذان، عرفته ناضحاً بالحيوية، مقبلاً على الحياة بشغف، يبحث عن فرصة انبثاق تمنحه تأشيرة عبور إلى نجوميةٍ ينتظرها بفارغ الصبر، حتى إذا جاءته لم يفرح بها لحظة!
فعلى قلة الأعمال التي التحق بها، ومعظمها أدوار ثانوية قصيرة، باستثناء كاميراته الخفية، كان ممثلاً بامتياز، يضيف لدوره الهامشي نكهة خاصة تجعله يبدو وكأنه بطل رئيسي بلا بطولة.. لهذا كان يترقب لحظة الخروج من الهامش بأمل كبير!
هذا العام، ولأول مرة، وأتته فرصة ذهبية للعمل في دور أول- ربما بديلاً لعادل سمنان- مع ذات الثنائي الجميل- العلفي والحبيشي (عيني عينك)، غير أن نفس العمل الذي رحل عنه الاشموري برمضان الماضي قبل أن يكمل تصويره- رحل سام أيضاً قبل أن يفرح بدوره!!.. في مصادفةٍ قدريةٍ صادمة!!
حين جاءني خبر مصرعه في اليوم التالي، كنت قد تابعته في بعض حلقات العلفي.. يومها كنت أترقب حلقة أخرى لأهنئه على هذه النقلة.. لم أكد أنتظر إطلالته وقت العشاء حتى هاتفني أحد الأصدقاء بالخبر الصاعق ليفسد عليّ متعتي.. انعقد لساني.. خرجت للتو من البيت.. ماذا أتابع؟؟ إنا لله وإنا إليه راجعون!!
احتجت فسحة من الصمت حتى أستوعب الصدمة، وربما غيري كثيرون لم يستوعبوا.. لكنها أقدار الله، تختار من تشاء، ووقتما تشاء، وكيفما تشاء، ولا اعتراض؟!!
أقسم أني سأفتقدك كثيراً يابن المعلمي.. كنت قبل أسابيع أتحدث عنك بالصدفة مع أحد الأصدقاء الفنانين، نقيّم نجوم الفكاهة المتواضعة التي اخترعناها سويةً نحن وأنت وطاقم كوكتيل رغم أخطائه، وننتوي اختراع فكرة مطورة.. يشهد الله أننا ذكرناك برأس القائمة!
مؤكد أن المخرجين يعرفون لماذا نذكر سام حين تبرز فكرة فكاهية.. فهو من القلائل الذين لديهم ملكات خاصة لإجادة أكثر من دور في حلقة واحدة، وحفظ النص سريعا عن ظهر قلب.. فضلا عن كونه يتعامل بمرونة، يؤدي بقناعة أو يعتذر بهدوء، ينجز دون تعويق، ينظم مواعيده المتداخلة، حتى وإن ظُلم ماديا أو معنوياً يغادرك مُغضَباً كغيره لكن بلا ضجيج أو حساسيات من أي نوع.. أما أخلاقه وبساطته ونقاء سريرته، فهو من الشباب القلائل جداً جداً جداً الذين لا يركبهم الغرور حين يظهرون في الشاشة.. ولا يتكلف أو يتزلف في تعامله، أو يتصنع ابتسامة بلاستيكية حين يمشي في الشارع!! فهو عفوي للغاية، أشبه بطفل كبير.. تخسره بكلمة، وتكسبه بنص كلمة!
تراه يتقبل دوراً ثانوياً برحابة صدر، لكن يدهشك حين يحيله كدور أول، ببهاراته التي يضيفها للشخصية، وبساطته وخفة روحه وسرعة التقاطه للنص وبديهته الحاضرة.. فهو رغم حداثته وقصر تجربته، يجيد التقمص اللحظي بلا تصنُّع.. حتى أننا كنا نحتاجه دائماً عندما يتعذر علينا ممثل ما فلا نجد منه استثقالاً أو تبرُّماً..
توفيق الحرازي
سام المعلمي.. الرحيل القاتل!! 1662