لعل أحداً لا يختلف على حقيقة أن المنطقة العربية تمر في الوقت الراهن بمرحلة مفصلية شديدة التعقيد لم تشهدها من قبل، وانه ومهما اختلفنا أو اتفقنا في تقييم ما كان وما يجري وما يتوقع عن مسار الأحداث في المستقبل فلا بد لنا أن نتعامل مع الأشياء كما هي وليس كما يحلو لنا أن نراها.. ولذلك فان من المؤلم على النفس أن يحل علينا شهر رمضان الفضيل في لحظة نرى فيها النزعة الانتحارية والتقسيمية عند العرب تتنامى يوماً بعد يوم لتصل إلى حالة من التفتيت والتدمير الذاتي تنذر بكارثة مفجعة قد لا يبقى فيها حجر على حجر في بناء هذه الأمة.
والأكثر إيلاماً أن يعاودنا هذا الشهر الفضيل بعد عام لم نتقدم فيه خطوة واحدة في أي مجال من مجالات الحياة باستثناء تقدمنا بالعمر والوهن بالعظم بل إننا الذين تراجعنا بين رمضان الفائت ورمضان الحالي إلى الوراء، وان المسافة التي كانت تفصلنا عن الأمم الأخرى قد ازدادت خلال هذا العام اتساعاً عما كانت عليه من قبل..
فيما وسائل الإعلام في البلدان العربية تتحدث كثيراً عن التغيير وعن قيم الحداثة ومفهوم التطور والتحول والنهوض الحضاري غير أننا إذا ما أمعنّا النظر نكتشف أننا في مرحلة لا وجود فيها لأي مستوى من الوعي السياسي والاجتماعي قادر على ضبط البوصلة وإيقاف حالة الشتات وعوامل الصراع والخصومات والحروب المفتعلة التي تشتعل في أوطاننا بشكل يعجز المرء عن تفسير طبيعتها، وفهم أبعادها وإدراك الأهداف المرسومة لها.
لقد دفع العرب الثمن باهظاً من الدم والمال والإمكانات من اجل تحقيق آمالهم وتطلعاتهم في مجالات الرخاء والنمو والوحدة والتكامل والتضامن إلا انهم قد وقعوا في فخ الخديعة وشرك المؤامرات الخارجية التي ظلت تعبث بهم وتعمل على تمزيقهم وتفتيت بعضهم بعضاً إلى أن وصلوا إلى ما وصلوا إليه اليوم من فرقة وتشرذم وانعزالية وقطيعة لدرجة صار فيها مجرد اجتماع أو لقاء عابر بين عربي وعربي يمثل حدثاً تاريخياً نهلل له ونشيد به ونبني عليه الآمال العظام.
قد يكون هذا التوصيف صادماً وصارخاً وحارقاً لأحلام الكثير إلا أن ما بدت عليه الصورة بالأمس القريب في أرض الكنانة بين المصريين وهم يسفكون دماء بعضهم بعضاً بعد أن قرر كل واحد منهم الاستفراد بالسلطة وإقصاء الأخر فيحوز الفائز على كل شيء ويخرج الخاسر صفر اليدين.. هذا المشهد قد عكس لكل ذي بصيرة أننا أمام مؤامرة قذرة تقف وراءها أطراف ومؤسسات خارجية تسعى إلى تمزيق العرب على مستوى كل دولة قطرية بعد أن نجحت في تفتيت وحدتهم الكيانية..
والمفارقة أن نجد الأشقاء في مصر الذين كنا نعول عليهم أن يقدموا المثال والقدوة لكل العرب في وعيهم بما يحاك لامتنا قد انجروا وراء من يريدون إشعال الفتنة فيما بينهم تحت تأثير طمع السلطة، وجشع الاستحواذ وأنانية الإقصاء وداء التحكم الذى اصبح بعد الربيع العربي عقيدة يتقرب بها البعض إلى الله ومنهجاً مقدساً لدى البعض الأخر يستحق أن تسفك لأجله الدماء.
وباستشراف الوضع العربي بعد التحولات الأخيرة يمكنني القول بأن مصائر المنطقة العربية أصبحت ضبابية وقاتمة؛ إذ انه وبعد فترة الحماس والأمل الجارف ها نحن نرى سير الأحداث في البلدان الخمسة التي مر بها الربيع العربي تزداد سخونة واضطراباً.. احتقان سياسي وامني وأفق مسدود في مصر، وأزمة خانقة في تونس وفتنة عارمة في ليبيا، ومسار انتقالي متعثر ومتعطل في اليمن وحرب داخلية دامية تأكل الأخضر واليابس في سورية.
وإذا كانت هذه هي حال بلدان الانتفاضات الشعبية العربية فان حال غيرها من أقطار الأمة العربية ليست بالأفضل خصوصاً عندما نستحضر حماس أكراد العراق إلى الانفصال كلياً عن المركز العربي وحماسة إقليم دارفور في البحث عن حل على غرار جنوب السودان الذى انسلخ كلياً عن الخارطة العربية، والخلاف المحتدم بين الفلسطينيين وتوترات الأوضاع في الصومال، وبوادر الانقسام في لبنان والأردن والجزائر وغيرها.. حيث أن هذه المؤشرات مجتمعة تؤكد أن الوطن العربي بشكل عام مثقل بفوضى سياسية واجتماعية واقتصادية وأمنية كبيرة فالجميع يفتقد الأمل، والجميع يقدس التفكير التقليدي ويميل إلى تكرار الأخطاء والحكم على الحاضر والمستقبل بمعايير الماضي الذي ألفه أو اطمأن إلى مفرداته والتي ارتبطت بأذهاننا منذ الطفولة بكل ما فيها من مثالب وعيوب.
ولذلك فلا نحتاج إلى عبقرية خارقة لنعرف كيف تفوق الأخرون فيما حافظنا نحن على تخلفنا؟
فهم يتقدمون ونحن نتراجع، وهم يقهرون الظلام ونحن نقهر النظام.. هم يعملون بروح الفريق الواحد ونحن نتخبط ونقتل بعضنا بعضاً.. والحل الحقيقي للازمات الكبرى التي تهدد العرب تقتضي حلولاً جذرية وشاملة تنتشل هذه الأمة من كبوتها ووضعها المأساوي المثخن بالخلافات والصراعات بين أبنائها الذين ينطبق عليهم مصطلح الإخوة الأعداء.. ولعلهم من سيتذكرون اذا ما بلغوا سن الرشد والنضج تصرفاتهم المخجلة هذه بندم شديد..
الرياض
علي ناجي الرعوي
أين نحن الآن ؟! 2124