لطالما اعتقدتُ جازماً أنَّ الأمه العربية لم تواجه تحدِّي حقيقي يتَّسق ومع ضرورات التغيـير في الإنسان وفي الكون معاً لم تواجه الأمه العربية تحدِّيا قـاسيا تخرج منهُ وقـد تخلَّقت من جديد بخصائص اجتماعية غير تلك التي كانت قبله.. لم تواجه الأمه تحديا يستحِق بعثها واستحقاقها للحياة وفقا لشروط الحياة الراقية فالتاريخ وحده باستقرائه يقول إنَّ أي أمة لا يُمكن أن تُبعث من موتها إلا إذا واجهت تحديا يُهدد كيانها ووجودها الطبيعي هذا التحدِّي يكونُ مصدره الطبيعة كالبراكين والزلازل والمجاعات أو تهديد يفرضُه الإنسان في حُدود التاريخ على الإنسان كالاستعمار والاستعباد والغزو..
هذان التحدِّيان اذا تمكنت أي أمة من الإجابة عليهما أو على أحدهما وخرجت منه مُنتصرة تكون قد استحقَّت الحياة وفقا لشروط حضارة تبزغ بها ومنها على الأرض وأعتقد أنَّ "الربيع العربي" لم يكن تحدِّيا كافيا لبعث الأمة أو خلقها من جديد وفقا لشروط حضارة, لقد كان الربيع تحدِّيا نسبيغ وليس كُليا فَلم تكُن الأنظمة المثور عليها تُمثل تحديا كافيا للبعث, فهي كانت أوهن من خيوط العنكبوت ولهذا سُرعان ما سقطت ولم يُمثل سقوطها أي قيمة للثورات أو للشعوب ولَم نلمس أي تغيير على مستوى الشعوب بل ضَلت كما هي عليه قبل الثورات, واليوم أجدني مُضطرا للقول إنَّ التحدي الحقيقي الذي على إثره قد تُبعث الأمه واقعاً حاليا في مصر نعم..
إن الانقلاب العسكري بمُعطياته ومُقدماته ومُلابساته الظرفية والتاريخية يُمثل تحدِّيا للشَّعب المصري بكُله في وجوده وأفكاره وتطلُّعاته وان قبول هذا التحدي والإجابة عليه هو بداية الميلاد الحقيقي للأمة العربية بكُلها وأعتقد أنَّ ثَمن هذه الإجابة سيكون باهضاً في الإنسان والمال, لم يعُد أمام الشعب المصري سِوى خوض الصراع الذي فرضه الجيش والقوى الرجعية عليه انَّهُ" صراع وجود أو عدم" وفي تصوري إنَّ التاريخ الواعي بتسلسُله المرحلي ولحظته الزمنية الآنية سيكون حاضرا بقوة في هذا الصراع ليشهدهُ بعد أن صنَع مُقدماته وينتظر حسمه من خلال الإنسان ليخلق بعده شعباً آخر مُتغيرا غير ذاك الذي عهده التاريخ الحاضر..
وفي تصوري إنَّ العسكر ارتكبوا خطأ تاريخيا لا يُغتفر بتحولهم الغير مقبول إلى "بندقية للإيجار" بأيدي قُوى الرجعية والتخلُّف ضِدَّ الشَّعب وخياراته وتخلِّيهم عن قَسمِهم العسكري وخيانتهم لرئيسهم القائد الأعلى بدون مُبرر أو مُسوِّغ موضوعي أو شكلي لذلك, والأدهى من ذلك ان يحتجزوه في إحدى مَقرَّاتهم إلى حين تهيئة ملفات إدانة بحقه, مُتخلِّين بذلك عن أبسط أخلاقيات الجندي.. كيف لمِن خان قائده أن يكون مَصدر أمان لشَعبه.. انَّ أسطورة الجيش المصري ووطنيته دفنها "السيسي" في معابد الفراعنة بجوار الدُّمى المُحنطة واستخرج شهادة وفاته بانقلاب رخيص ضِد أنزه وأشرف رئيس عرفتهُ مصر ولا عُـذر لهم سِوى لعنة الخيانة التي تكاد تكون دارجةً في مُعظم الجيوش العربية التي تَدرَّبت على أيدي أعدائها..
وبرغم هذا كُله فانَّ ما قام به هذا الجيش برغم انحطاطه لرُبما يكون قد فعل حَسنته الوحيدة.. أيقظَ الشَّعب من غفوته وصنعَ التحدِّي المُناسب لميلاده وفي نفس الوقت كان الأداة الفاعلة لهذا التَحدِّي مُنهيا بذلك أسطورته الوطنية بكشف عورته والخَلل الذي كان يُخفيه طيلة مرحَلته التاريخية وحتَّى لا يضل الشَّعب مُغترا بجيشه وقادته العسكريين الذين من الصعوبة بمكان معرفة حقيقة ثقافتهم وأيدولوجيتهم الفكرية والعسكرية وطنيتهم بعد ان تشرَّبوا كُل ذلك بعيدا عن النُظم المعرفية الوطنية واستقوها بصورة مباشرة أو غير مُباشرة من أعداء مصر التقليديين..
مصر اليوم تواجه تحدِّيا يُهدد وجودها على الخارطة الحضارية, تحدِّيا مُتجسدا في جيش مُسلح مُرتكز على أفكار مُشوشة تُـتيح له توجيه السلاح حتَّى على وطنـه, تحدي جيش مُقدَّس في أذهان شعبه من جهة مُصابٌ بالعوار في أيدلوجياً قادته من جهةٍ أخرى..
وفي تصوري أنه مهما كانت نتيجة هذا التحدي فإنَّ الشعب المصري سيتغير جذريا سلبا أو إيجاباً وينعكس ذلك كله على الأمة العربية في أفكارها وجهازها المفاهيمي ويمُدها بطاقةٍ حيوية افتقدتها مُنذ عصور.. اليوم الثورة بدأت فعليا ثورة التغيير ويا للسخرية فلقد فجَّر هذه الثورة الجيش المصري بنفسه بدون قصـد فهو أداتها ومُحركها وهو في نفس الوقت ضحيتها..
وما اعجب ما نعيشه هذه الأيام أدوات القمع التقليدية تتَحوَّل تلقائياً إلى صخرة تحدِّي رهيبة وتُفجِّر صراع اجتماعي سياسي وتـتَخلَّق مـصر على اثره خلقاً آخـر غَيـرَ ما عهدهُ التاريخْ مُتأثرةً بتخلُّقها هذا بكُل فصول الطبيعة لا بفصل الربيع وحـده.. في مَصر اليوم ثورة حقيقية نابعةً من الذات الإنسانية تَستهدفُ صناعة مُستقبل مَصر والأمة العربية صناعةً حضارية تصلُ بها ومن خلالها إلى شكلٍ راقٍ من أشكال الحياة التي تصبو إليها المُجتمعات وهذا الشكلُ الذي قد يُنتج هو علَّة الوجود بـلْ هُو الوجود ذاته..
د/ عبدالله الحاضري
تحدي مصر الرهيب 1833