في مصر اندمجت الخمائر الثورية والنظام السابق والمتضررين من الثورة في بوتقةٍ واحدة ضدَّاً على النظام الثوري, وهذا أمـرٌ حتمي وقدَري في كُل الثورات, وبمعنى أدَّق أثبت القانون الثوري بالتجربة أنَّ مثل هذه القوى المتحالفة تكاد تكون مُتماثلة في التاريخ عقب كُل ثورة وإن اختلفت مُسمياتها, والثورة المصرية خير مثال, فما يلاقيه "مرسي" من هذا التخندق المضاد للثورة يكاد يلقاه كُل رئيس ثوري يعقُب ثورة.. إنَّه قانون الثورات وعلينا أن نُسلم به, ويبقى السؤال الأهم: كيف نتعامل مع هذا الوضع المرحلي الموصوف بالعبور الثوري الذي تخلقُه الثورة كَتحدٍ؟!.
يجب على الثوار الإجابة عليه والتعامل معه وكأنما الثورة تختبر أبنائها للتحقُق من مدى رغبتهم وقدرتهم على الدخول في التاريخ والإبداع فيه, ويكون خِضم هذا التحدي كامناً في الرَّد على أفكار أعداء الثورة والحَـدْ مِن حركتهم الوجودية, ومن ثَم العُبور إلى ما بعد التحدي برصيد تجربة قـادر على الاستمرار والاستلهام منه في كتابة التاريخ الثوري كواقع حَي على المستوى الاجتماعي والحضاري, وكأن الثورة تختبر أبنائها لِتُقدر مدى جِديتهم وقدرتهم على استيعاب مُحيطهم قبل تمكِينهم من احتضان تُراث مَن قبلهم وأمانة وجود من بعدهم.. لذلك تَفرز الثورة من داخلها خمائر ثورية كأعداء للثورة, هؤلاء الأعداء الذين نصروا الثورة قدرهم أن يكونوا مَحكاً لاختبار نسبية نجاح الثورة ويبدأ استعدائهم للثورة التي اشتركوا في صُنعها بتحالفهم مع أعدائهم بالأمس, وإنها والله لمُفارقةٌ عجيبة! "أعداء الأمس أصدقاء اليوم", وهذا ما لمسته من خطاب ووضع "حمدين صباحي" وبعض الثوار الذين معه في حركة تمرد ومن قبلها جبهة الإنقاذ يتحالفون مع فلول النظام السابق ضِد الثورة التي شاركوا في صُنعها مع غيرهم, تماماً كما فعل ويفعل بعضُ ثوار ليبيا وثوار اليمن.. وهذه الحالة تتكون فقط في الثورات التي وصلت إلى ما بعد الحسم الثوري, أما الثورات التي مازالت في مرحلة الحسم الثوري فتَنعدم فيها هذه الحالة, أنظر مثلاً "الحالة السورية" لا يُمكن أن تجدَ ثائراً يتحالف مع النظام.
إذاً حالة الخمائر الثورية التي تتَحالف مع الفلول هي حالة ما بعد الحسم الثوري, أي أنَّها تَتكون في حالة رحلة العبور الثوري, أي أنَّها ظاهرة قانونية ثورية, فلا إشكالية في ظهورها, ولكن الإشكالية في كيفية التعامُل معها بما لا يؤدي إلى وَئد الثورة والانتكاسة إلى ما قبلها, وما يجري الآن في "القاهرة" تجسيد حَي لِجدل ثوري قائم في كُل ثورة, كَما في صنعاء وطرابلس وتونس, وإن اختلفت مُحددات أدواته في كل دولة قامت فيها ثورة..
ولكن لماذا تظهر في الوجود هذه الحالة عَقب كُل ثورة؟.. والجواب أنَّ الثوار حين التقوا في زمنٍ واحد ومكان واحد, التفُّوا حول هدفٍ واحد وفكرةً واحدة "إسقاط النظام", هذه الفكرة صَهرتهُم فيها واحتوتهم على اختلاف مشاربهم الثقافية والفكرية, وحين تحقَّقت فِكرتهم وأسقطوا النظام ظهرت على السطح والمحَك السياسي أفكارهم المتجذرة وثقافتهم المختلفة, هذا الاختلاف تحول إلى حركة مع أو ضِد الثورة, بِحسب نوعية المصالح التي تحققت للفرقاء من الثورة.. وأعتقد جازماً أن طبيعة المرحلة التاريخية التي يكون فيها الصراع البيني في مثل هذه الحالة كفيلاً بحسم المعركة, أعني الميل الشعبي لأفكار أحدى طرفَي الصراع, وفي "مصر" أميلُ إلى القول بأن المرحلة التاريخية هي مرحلة الإسلاميين بعد أن جرَّب الشعب الأفكار الحداثية بكافة أطيافها وعلى كُل المستويات الاجتماعية والسياسية والثقافية, ووصلت بها ومعها إلى حافة الانهيار الإنساني, وأصبحت مصر الحضارة خارج الحضارة.. هذا الوضع المُتخلف جعل الشعب المصري يبحثُ عن البديل, فلم يجد في ثقافته وتجربته التاريخية سوى الأفكار الإسلامية بعد أن جرَّب غيرها, فما جنَى منها غير الاقتراب من العدم في ذاته ووجوده.
كُل هذآ يجعلنا نجزم أن المرحلة التاريخية هي مرحلة الأفكار الإسلامية, وأن الميل الشعبي هو الذي سيحسمُ هذه القضية من وجهة نظر تاريخية مُجرَّدة, وما يُرجِّح هذآ الميل هو "حركة تمرد" التي من خلال اسمها حسمت أمرها بسوء اختيارها لـهذا الاسم, ولكل من اسمه نصيب, فقد اختار أرباب المدرسة الحداثية هذا الاسم ليكونوا بذلك مُتمردين على أفكارهم المدنية والديمقراطية التي لطالما تَغنُّوا بها واعتبروها نتاجاً لمنهجيتهم الحداثية, ومُتمردين على القِيم والأخلاق وعلى سُنة التداول الكونية في الأشياء وحتَّى في السُلطة السياسية.
إنَّ التمرُّد على رئيس ثوري, صاحب مروءة وأخلاق وقيم ونزهة بار بوطنه وأمَّته, وصَلَ إلى سدَّة الحكم بإرادة ثورية شعبية وبعمليةٍ ديمقراطية نزيهة مشهود عليها من العالم أجمع- يُدلل على أن الإفلاس والانحطاط قد بلغ أوجه في جبهة الإنقاذ وحركتها المُراهقة, تمرُّد التي أصبحت تُراهن على تدمير "مصر" من أجل مصالح شخصية أقل ما يمكن أن يُقال أنها مقيتة بعد أن خلقت أوضاعاً معيشية صعبة, شاركت هي في إحداثها بتحالفها مع كل أعداء مصر, لِخلق بيئة شعبية صاخبة توجهها صوب تدمير كُل مقدرات مصر, كُل هذا من أجل نزوات الحكم والسلطان.. وكنتُ أتمنى من جبهة الإنقاذ أن تلتزم المبادئ الثورية في معارضتها وأن تُقدِّمَ أفكاراً ورؤى للشعب المصري تكونُ بديلاً أصلحَ وأنفعَ مِنْ تلكَ التي قدمها النظام السياسي الذي يرأسهُ مرسي, لا أن تكون جُل أفكارهم مُجرد إسقاط مرسي بطُرق غير دستورية ولا قانونية مشوبةً بأفكار تآمرية وتعبئةً شعبيةً استعدائية ضـدَّ تيار الإخوان المسلمين, بِصيغ لا تخلو من التخوين والتجهيل وتصويرهم في الذهن الاجتماعي المصري بأنهُم دراويش لا يفقهون في الحياة شيئاً, وأنَّ ما يمتلكونه مُجرد لحاء وطلاسم دينية.. لقد خرجت جبهة الإنقاذ في خصومتها مع الإخوان عن كل المبادئ السياسية والديمقراطية المُتعارف عليها دولياً, وتخلصُ إلى القول أن غيرها من شعب مصر لا يصلح للحكم.. هذا ما نأخذه على جبهة الإنقاذ في خصومتها مع النظام السياسي!.
وفي الأخير أقول: ستخرج مصر من هذه المِحنة وهي أكثر قـوة ممَّا قد مضى, لتِكتمل الثورة بنُضج أبنائها وتجربتهم هذه, ليعبرواْ الدَّرب بعد ذلك وكُلهم ثقةً بأنفسهم بعد أن يتخطوا محنة صاغتها بإتقان كُل قوى الشَّر مُستغلة الأبعاد الزمنية لمصفوفة القوانين الثورية.. وأعتقد أن حسم هذه المرحلة مرهون بالأفكار الأصلح للبشرية في زمن اقتربت فيه أفُول شمس الحضارة الغربية.
د/ عبدالله الحاضري
الإخوان وحَركة تمرُّد 1709