شدَّني موفنبيك إليه, أي والله شدَّني إليه, وإن شئت القول أسَرني, ليس بموقعه الجغرافي الساحر المُرتفع القابع فوق تبة مُطلةً على صنعاء الحزينة, وليسَ لأنَّ الخِدمة فيه خمسة نجوم كُل نجمٍ يعلو على الآخر.. ما شدَّني إليه هـو "حوارنا الوطني" الصارخ المُقام حالياً فيه ويكاد يعلو صراخه أزيز الرصاص من حوله وأوجاع التقطُّعات وآهات شعبٍ بدون ضوء, يكاد يعلو صراخه أصوات الطائرات المسقطة حال سقوطها المُفزع وأنَّات الطيارين المغدور بِهم وترانيم صلاة أقاربهم وأقارب كُل ضحايا الغدر والخيانة.. تعلو أصوات المُتحاورين فوقَ كُل تِلك الصرخات ويُصبح "الموفنبيك" كَمعبدٍ يطوفُ حَوله وداخله وفي أزقَّته أسراب من البشر الذين يعتقدون أنَّ مِن داخله سينبُع الحَل لمأساتهم السياسية, فتراهم ليلاً نهاراً يرقبُون الحوار ومجنباته وخفاياه ومحطاته في الداخل والخارج ويُرددونَ ما يقولهُ المُتحاورون, على اختلاف مشاربهم وميولهم الحزبية والفكرية, جملةً جملة وحرفاً حرفاً, حتَّى إَّن الصِّغار يُقلدونهم في حَركاتهم, خاصةً تِلك المشاكسة التي غالباً ما تنتهي "بصفعات" على الخدود والأفكار, وصار لاصقاً في أذهان اليمنيين أنَّه لا مخرج من المِحنة إلا بنتائج الحوار ومن ثَمَّ القبول بها وإن كانت مُرَّة أو لا تكاد تُستساغ, حتَّى وإن كان طعمها علقماً!.. لكنَّ هذا الرضا وهذا القبول المُسبق لا يعني بالضرورة القفز بالحوار وبنتائجه ما فوق العقل ودون منطق الحق وتعدِّي الثوابت التاريخية والوطنية, ومن ثَم ينبغي أن يكون للنتائج سقفها المعقول والمعيار هو طبيعة وحجم المشكلة, فليس من المنطق في شيء أن تكون جذور المشكلة اليمنية هي تصرفات الإنسان السياسي وتكون نتيجة الحوار هي تقسيم اليمن تحت أي مُسمى كان!.. ليس من المعقولية في شيء أن تكون جذور المشكلة نابعة من العقل السياسي والاجتماعي ونتَّجهُ إلى هرمسة شكل النظام السياسي.. ليس من المعقولية في شيء أن تكون المُشكلة في الإنسان وثقافته ومن ثَم يكون الحل مُوجَّهاً إلى شيءٍ آخر لا علاقة لهُ بجذور المُشكلة على الأرض..
إنَّ ترك العقل الذي خَلق المشكلة كما هو عليه, ومنحه إقليماً مُستقلاً ليُمارس عليه نفس الأخطاء, هو تكريسٌ لها, ومن ثَم يكون الدور ونظل قابعين في نفس الخطأ التاريخي!..
ليست الإشكالية على الإطلاق في نفس النظام السياسي السابق من الناحية الموضوعية العلمية المجردة, بدلالة أنَّ نفس النظام تَم تطبيقه في بُلدان أخرى ونجَح بامتياز.. إنَّ النظام المركزي مع صلاحيات حُكم مَحلي واسع الصلاحيات وبالوضع القانوني المناسب الذي يُتيح لهُ خلق فُرص للنمو هو الأنسب والمنطقي لوضعنا الجيوسياسي..
أقول ذلك بداعي أنَّ النظام الفدرالي وأسباب نشوئه ومُعطيات خلقه غير مُتاحة لدينا ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن يتناسب مع وضعنا الاجتماعي ومرحلتنا التاريخية, والسبب ببساطة أنَّ إشكاليتنا ليست في أسلوب وشكل إدارة الحُكم, بل تكمُن إشكاليتنا في فهم الإنسان اليمني لماهية الحُكم.. هذا من جانب ومن جانب آخر النظام الفدرالي جاء لحاجةٍ تاريخية للبُلدان التي اصطنعته ليتناسب وطبيعة التركيبة السكانية لها ولأفكارها الاجتماعية السائدة فيها, وبالتالي جاءت الفدرالية وفقاً لهذه الحاجات, كَـ التعدُّد العِرقي وتعدُّد الديانات والاختلاف التاريخي لسبق وجود الإنسان في الجغرافيا فيها, وكل هذه المسوغات غير متوفرة لدينا وما قد يُثيره البعض أنَّ دولاً جرَّبت الفدرالية من غير دول المنبع ونجحت, فَـبَلد التجربة قد تتشابه مرحلتها التاريخية مع مُعطيات خلق الفدرالية, وأما الزَّعمُ أنَّ الفدرالية قد تُتيح وضعاً أفضل لاستغلال الموارد فهو قول ضعيف لا يستحق مُجرد الوقوف أمامه!, فشعبُ الصين العملاق ذو المليار والنصف والحكم المركزي الشديد من أقوى اقتصاديات العالم, بل هو في أعلى سُلَّمه, والإنسان الصيني هو المبدع في الأرض الصينية بكُلها ولا علاقة للإبداع بشكل الدولة.. وأعتقد أنَّ الأفكار المتولدة عن شكل حضارة هي التي تُبدع في أفكار استغلال واستخراج الموارد وليست الأفكار المتولدة عن شَكل الحُكم السياسي.
إنَّ الشعب اليمني ينتظر من المؤتمر أن يُعالج الإشكالية ولا يهرب منها ويستبطنُ في ذاته مُجرَّد إرضاء الأقيال والأذواء.. وفي تصوري أن الَّلغطَ الذي يُثار في الفدرالية قد استغرق جهداً ووقتاً في غير محلهما, فليست مُشكلتنا في كيفية إدارة الحُكم, بل مَكمُن مشكلتنا في الإنسان الذي يُدير دفَّة الحُكم, وما إثارة الفدرالية في هذه المرحلة التاريخية بالذات إلا تكريساً لمُشكلة الإنسان اليمني وتسخير الأرض لإشباع نزوات النُّخب السياسية بتقسيم اليمن عليها, وبمعنى أدَّق إيجاد أقاليم للملوك والسلاطين في الشمال والجنوب ومن ثَم تقسيم العبيد عليهم بالتساوي, ولم أجد وضعاً مُناسباً ولا كلمات يُـردُّ بها على ما يدور داخل الموفنبيك إلا ما قالته ملكة اليمن "بلقيس" صفعاً بالقول "إنَّ المُلوكَ إذا دخلواْ قريةً أفسدوها وجَعلواْ أعـزَّةَ أهلها أذِلَّـةً وكَذلكَ يفعلـونْ".. وجُـلَّ ما أخشاه أن يكون مؤتمر الحوار هو فقط مؤتمر يطلب الحياة بتقسيم الأرض على الملوك من أجل أيام قد تحياها اليمن بسلام موهُوم.