عندما خرجت الثورات اليمنية المتعاقبة كانت تحمل في طياتها حلم الدولة المدنية الحديثة، تلك الدولة التي تحفظ الدين والنفس والعرض والعقل والمال وبرغم الإخفاقات التي عانت منها الثورات الأم في اليمن فإن ثورة الشباب السلمية أوجدت وعياً جماهيرياً غير مسبوق بأهمية الدولة المدنية الحديثة التي خرجت جموع الشباب الحاشدة تطالب بها ليسود القانون ويتوطن العدل في اليمن والعدل هو شرع الله.
إن اليمن أنجزت الخطوة الأولى نحو المستقبل الزاهر بإذن الله حين أسقطت النظام الإقصائي الذي مارس الإقصاء على مستوى مدرس المدرسة، ونجحت في الانتقال سلميا من ضيق العائلة التي اختزلت الوطن في شخص واحد إلى سعة الوطن الذي يتسع لكل أبنائه، وخرجت من جور الحاكم الفرد المستبد إلى فضاء التوافق الفسيح والحوار الوطني الشامل الذي يحترم الآراء ويناقش القضايا ويستمع لكل فكرة تطرح ولكل رأي يقال، في تظاهرة يمنية توضح الحكمة اليمانية واستطاعت اليمن بفضل من الله أن تتم ثورتها بولادة طبيعية تحفظ النفس اليمنية من الاقتتال، والأرض اليمنية من الانفصال، فاليمنيون يحترمون النفس ويدركون قيمتها، ويتقبلون كل ما من شأنه حفظها.
ورغم أهمية خطوة إسقاط النظام وقيمتها وعظمتها إلا أن المهمة الأكبر هي مهمة البناء والإعمار، يشمل جانب القيم التي دمرها النظام السابق، وإعمار في البنية التحتية التي عبث بها النظام المستبد، وهو بناء وإعمار يشمل جوانب الحياة كلها اقتصاديا وثقافيا واجتماعيا وسياسيا، مما يتطلب معه أن يعم المد الثوري السلمي مجالات الحياة كلها وعلى مستوى الفرد والمجتمع والدولة والأمة.
من المهم القول: إن المرحلة اليوم تتطلب الانتقال من اللادولة التي مثلها الحكم العائلي البائد إلى الدولة التي تبنتها الثورة ويسعى للتأسيس لها مؤتمر الحوار الوطني الشامل، وهذا الانتقال له متطلباته وتكاليفه وخطواته، ومن أهم تلك المتطلبات تدفق المد الثوري طولا وعرضا وعمقا ومعرفة والتزاما، ومن هنا فإن المد الثوري يجب أن يستمر في التوسع الأفقي والرأسي، وهو مد لا يقصي أحدا، ولا يلغي أحدا، وإنما يطالب الجميع بأن يقوموا بواجباتهم تجاه اليمن، وفاء بالدين المناط برقبة كل وطني حر، يقول الشاعر:
وللأوطان في دم كل حر .. يد سلفت ودين مستحق
إن هذا الانتقال من الخراب الممنهج في العقود الثلاثة السابقة إلى الأمل القادم بالدولة المدنية الحديثة يتطلب الجندية المبصرة لأجل هذا الوطن، فكل يمني هو جندي في موقعه بناء وحماية لأجل الوطن اليمني المجيد، وهذه الجندية المبصرة تعرف واجباتها وتقوم بها، وعندما نقول جندية فنحن نعني ما في الجندية من الانضباط والالتزام والدقة، انضباط في العمل يورث نجاحا، والتزام بسلامة الأداء ومواصلة السير ينتج عنه تعاظم النجاح واستمراريته، ودقة في الأداء تضمن الإتقان والجودة الشاملة في كل عمل يقوم به كل فرد باعتباره جندياً في جيش الإعمار وحارسا أمينا لمكتسبات الوطن، وقلنا إنها جندية مبصرة يقودها حب اليمن ويحدوها هتاف الوطن المجيد نحو الإبداع والإنجاز.
إن الجندية المبصرة ضرورة وجود لإعمار اليمن من خراب النظام السابق، وشرط أساسي لبناء نهضة حقيقية وشاملة تتجاوز التركة الثقيلة التي خلفها النظام السابق، ومن هنا فلا بد من التأكيد أن العمل بوتيرة الجندي الذي يعطي الكلمات معناها على حقيقتها فالأمر للتنفيذ، والتنفيذ حتى تصل الأهداف إلى نهايتها وحتى تكتمل الغايات وتتحقق الأمنيات، وبهذا تصبح اللغة هي وثيقة العمل بين فئات الشعب كلها، فاليمن ميدان العمل والأوامر الذاتية والوطنية تأخذ مسارها في التنفيذ، وهذا يتطلب اتساع أفقي يشمل كل الشعب كل فرد فيه مثل الجسد الذي تتفاعل كل خلاياه، باتساع الجسد كله، ويتطلب اتساعا رأسيا المجتمع كله من أعلى قمة في هرم البناء إلى أدنى قاعدة فيه على مستوى كل مجال من مجالات الحياة، وعمقاً في كل جزئيات الحياة، وهذا العمل أشبه ما يكون بالعافية التي تتغل في كل عضو من البدن لتشمل الحياة كلها، وهذه الجندية المبصرة هي الأداة التي من خلالها تتحقق العافية.
ومثلما تأتي العافية بعد مرض ومعاناة جاءت الثورة الشبابية السلمية لتعلن زمن اليمن الجديد، اليمن الذي يدعو كل أبناء اليمن لمد أياديهم في العمل لإنجاز أهداف البناء بنفس الحماس والهمة والحيوية التي سارت بها الثورة، ذلك أن صناعة المستقبل تبدأ الآن، وكل يمني ويمنية مطالب بأن يكون له إسهامه في بناء اليمن..
ولكن هذه الجندية المبصرة تحتاج التزود بأخلاق القادة النبلاء, أي العطاء الذي لا يتوقف, بل يتدفق مثل ينبوع النهر الذي يسقي الحياة ولا يفرق في عطائه بين الشوك والزهر، قال الشاعر:
أسقي لأسقي لا شوك ولا زهر .. هكذا قالها الينبوع حين جرى
إن أخلاق القادة التي تتحلى بها الجندية المبصرة تعني السمو على الجراحات لأجل اليمن، والترفع عن المهاترات، والرفعة على الأطماع التي تحت بيارقها مصارع الرجال، وبناء الوطن مهمة جسيمة مقدرة على هذا الجيل الحر الذي انتفض من أقصى اليمن إلى أقصاه يصنع المستحيل، وينجز أعظم ثورة في تاريخ اليمن المعاصر.
إن العمل المبصر والجاد والمثمر الذي تقود خطاه الجندية المبصرة وتتحلى بأخلاق القادة النبلاء تتطلب التوازن في السير، بحيث تسير الخطوط بصورة متوازية ومتزنة، متوازية تتحرك في اتجاهات عدة ومجالات متعددة فكل يعمل من موقعه، ومتوازنة لا تهور فيها، فالتوازن ضروري لنجاح أي قرار أو عمل أو خطوة فالحق يحتاج في تطبيقه إلى حكمة، ومن المهم التأكيد على قانون حياتي يعبر عنه المثل اليمني القائل: العافية قراريط، فالعافية تنمو وتتسع وتتمدد، ولكنها تأخذ وقتاً، وهذا الأمر على بساطته ينساه كثير من الناس، والمد الثوري هو الذي يسرع في خطوات العافية لأنه الحامل لمشروع اليمن الجديد، ومشاركتك سيدي القارئ الكريم في هذا المد الباني شرف تستحقه اليمن، وهو دين في عنقك لأجل اليمن، وأنت على ثغرة فلا تؤتين اليمن من قبلك.
د. محمد عبدالله الحاوري
الحوار والانتقال من اللادولة إلى الدولة المدنية اليمنية الحديثة 2019