يرى البعض أنه يتم اللجوء إلى العدالة الانتقالية من قبل الدكتاتور أو الطغمة الحاكمة استباقاً للضعف العسكري، أو كشرط للقبول بانتقال سلمي للسلطة، بحيث لا يستطيع المجتمع التحقيق مع المتهمين بارتكاب جرائم بحق الإنسانية ومحاكمتهم، بذلك تكون العدالة الانتقالية من اختراع المجرم لحماية نفسه من أي ملاحقه قضائية مستقبلية، ومن جهة أخرى يلجأ المجتمع إلى العدالة الانتقالية لشعور المنتصرين بان مرتكبي الانتهاكات من الكثرة بحيث يصعب أو يستحيل تقديمهم إلى محاكمات عادلة دون انعكاس سلبي على السلم والأمن في المجتمع, ويستمد هذا الاختراع شرعيته من غطاء مصطنع وزائف يستخدم المصلحة العامة شماعة ترمى عليها جرائم من أساءوا إلى المجتمع واقترفوا في حقه أبشع الارتكابات لتبرير وتغييب العدالة الحقيقية الناجزة.
التعريف السائد للعدالة الانتقالية:
- منهجية تستهدف انتهاكات حقوق الإنسان الماضية بمعالجة ملفات الماضي المتعلقة بالانتهاكات، بواسطة العدالة الانتقالية التي لا تقوم على الثأر والانتقام، مع تعويض وجبر الضرر بالنسبة لضحايا الانتهاكات السابقة.
- تنظيم مرحلة الانتقال السياسي بحيث تتم معالجة نتائج جرائم الماضي، ومنع وقوع جرائم أخرى مستقبلا، مع عدم إغفال الصفة الجماعية لبعض أشكال الانتهاكات مثل عمليات الإبادة الجماعية والمذابح الجماعية والتطهير العرقي، وغيرها.
- إقامة المؤسسات الديمقراطية والدستورية التي تضمن عدم عودة الاستبداد أو انتهاك حقوق الإنسان مرة أخرى.
- التوصل إلى حلول مقبولة من كافة الأطراف لإعادة بناء وطن للمستقبل يضم الجميع دون إقصاء، قوامه الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان وسيادة القانون, بالإضافة إلى تحقيق العدالة الاجتماعية والاقتصادية.
في اليمن عدالة انتقائية:
تطبيقاً لنص المبادرة الخليجية اصدر البرلمان اليمني الذي يضم اغلبية كاسحة (أسميتها كسيحة عند تشكيل البرلمان) من المؤتمر الشعبي العام قانون الحصانة الذي يمنع مساءلة الرئيس السابق علي عبدالله صالح وجميع من عمل معه قضائياً عن أفعالهم خلال فترة حكمه التي دامت 33 سنة.
ومن ناحية تقنية فان أبرز رموز المعارضة (حزبا الاشتراكي والاصلاح) مشمولان بتلك الحصانة, بما في ذلك اجتياح الجنوب عام 1994, حيث كانا في ائتلاف حكومي مع المؤتمر, ولم يتبق للضحايا عملياً إلا جبر الضرر والتعويض، أما المواطن والوطن فيتبقى لهما اصلاح المؤسسات واعادة بنائها بطريقة تضمن عدم عودة الممارسات الاستبدادية وانتهاكات حقوق الإنسان.. أما الخزينة العامة فعليها العوض لا فيما تم نهبه من مال عام خلال الفترة الماضية فحسب، بل وفيما تم نهبه من قبل القيادات من معسكرات الجيش بعد الحصانة وانتقال السلطة إلى الرئيس الجديد.
ومع ذلك كله فان كلاً من المؤتمر والإصلاح مصران على أن تقتصر إجراءات العدالة الانتقالية على أحداث العام 2011 وما بعده فقط، على الرغم من البلاد كانت تعيش حالة حرب معلنة وغير معلنة وانتهاكات مستمرة للحقوق منذ العام 1962.
ضمانات توقف الانتهاكات:
أهم الضمانات التي تكفل عدم عودة الانتهاكات هي الإصلاح المؤسسي الذي يستهدف إصلاح المؤسسات التي لعبت دورا في هذه الانتهاكات (غالبا القطاع الأمني والمؤسسات العسكرية والشرطية والقضائية.. وغيرها)، وإلى جانب تطهير هذه الأجهزة من المسئولين غير الأكفاء والفاسدينِ، غالباً ما تشمل هذه الجهود تعديلات تشريعية وأحياناً دستورية، بغية تفكيك- بالوسائل المناسبة- آلية الانتهاكات البنيوية وتفادي تكرار الانتهاكات الخطيرة لحقوق الإنسان والإفلات من العقاب.
إن أي برنامج لتحقيق العدالة الانتقالية عادة ما يهدف لتحقيق مجموعة من الأهداف تشمل: وقف الانتهاكات المستمرة لحقوق الإنسان، التحقيق في الجرائم الماضية؛ تحديد المسئولين عن انتهاكات حقوق الإنسان ومعاقبتهم.
ولما كانت الحصانة قد جعلت ذلك أمراً غير ممكن، فإن لجان الحقيقة التي تحتم اعتراف المرتكبين بأفعالهم علناً قد تكون وسيلة مناسبة لتعرية المرتكبين تمهيدا لعزلهم إدارياً من جهة، وتعويض الضحايا معنوياً وإن بشكل رمزي من جهة أخرى، مع ضرورة تعويضهم مادياً بشكل منصف.
حكومة الوفاق عائق أساسي:
تنشط بعض مكونات حكومة الوفاق لإحلال منتسبيها في الوظائف الحكومية ضمن محاولة للسيطرة على مفاصل الدولة في كل من الداخلية والمالية والتعليم والقضاء على سبيل المثال، وهي أعمال تليق ببناء تشكيل عصابي ولا تمت إلى بناء الدولة بأي صلة.. هذه التصرفات تمنع الإصلاح المؤسسي وتلحق أبلغ الضرر بالدولة، وستولّد غياب الثقة بين المجموعات وفي مؤسّسات الدولة، فضلاً عن عرقلة الأمن والأهداف الإنمائية أو إبطاء تحقيقهما.. كما أنّها ستعمق التساؤلات القائمة بشأن غياب الالتزام بسيادة القانون مع ظهور ممارسات فساد معلنة مرت دون مساءلة، وهو ما قد يؤول في نهاية المطاف إلى حلقة مفرغة من العنف في أشكال شتّى.
أحمد صالح الفقيه
حول العدالة الانتقائية في اليمن 1292