النقد الواعي هو الذي يراعي إنسانية الإنسان؛ بمعني أننا عندما نتوجه بالنقد إلى الآخر الذي يقع في الخطأ علينا ألا نغفل أبداً أن الذي أمامنا هو لصيق الإنسانية وأنه مجبول على الخطأ وأنه لم يفطر على الصفة أو الغرائزي الملائكية التي لا تخطئ..
فالإنسانية فطرت أو جبلت على غرائز متنوعة ومتباينة غرائز تحمل الجانبيين السلبي/الإيجابي وصاحبها (المؤمن الإنسان) تتجاذبه الغريزتان فهو يقع في الخطأ والذنب، ولو لم يكن ابن آدم خطاء لما وجدنا من أسماء الله التواب والغفار والحليم والرحيم وغفور رحيم وتواب رحيم, فهذه صفات وإمعاني تقتضي وجود غريزة الميل إلى الخطأ والوقوع فيه ولما كان الله غفار وغفور فإنه سيكون هناك مخطئ وخطَّاء فيغفر للجنسين.. ثم أن مفردة النفس اللوامة (في تقسيم القرآن للنفس) تؤكد حقيقة الإنسانية التي تتخاطفها الشهوات وتميل بها يمنة ويسرة فلا تملك إلا الوقوع في الخطأ.
إن كل ذلك يجعلنا نقر بأنه ليس هناك إنسان معصوم من الخطأ فهناك أخطاء نسبية تقع فيها الإنسانية المؤمنة فإيمانها لا يغير خصائص إنسانيتها وهذه النسب كما هي موجودة عند الإنسان المؤمن هي موجودة بالقدر ذاته عند الإنسان غير المسلم, لهذا كانت الجنة درجات والنار مثل ذلك.
المشكلة لا تكمن في مادة النقد إنما في غياب الوعي عند الناقد وأهم هذا الغياب هو غياب مفهوم الإنسانية الذي جعل الناقد حدياً بين نزعة ملائكية وشيطانية أو بين اللونين الأسود والأبيض فبعض الناس أو النقاد (ومع أنهم خاطئون) عندما يجدون شخصاً يخطئ سريعاً ما يتقمص الناقد حلة الملائكية عندما تغيب الإنسانية وفي الوقت نفسه يلبس المنصوح حلة الشيطانية, فتجد أمامك (ملائكياً ينصح شيطانياً) وهنا يغيب الوعي ويختزل مفهوم الإنسانية أو يتماهى في الملائكية من جانب الناقد وفي الشيطانية من ناحية المنقود وعند ذلك لن ينصحه أو ينقده بقدر ما رأى أو يرى فيه من الخطأ, بل سوف يتسع في ذلك ليفصله على تلك الحلة التي تجاوزت الإنسان إلى الشيطان فترى الناصح يتأول ويغوص في بواطن المنصوح فيتغول حتى يعمق في شيطانية المنصوح بصرامة الحديث فيخرجه عن الإنسانية، فهو إما أن يكون ملائكياً لا يخطئ وإما أن يكون شيطانياً يختزل الإنسان الذي يتجاذبه الصح والخطأ في جانب الخطأ فقط حتى تتماها إنسانيته الإنسان في صورة الشيطان, فتجد البعض يتعوذون منه وحتى من رؤيته ولو كان النقد واعياً وإحدى أهم سمات هذا النقد- بتصوري- هي مراعاة إنسانية الإنسان المجبولة على الخطأ.
وتأمل معي قول الرسول- صلى الله عليه وسلم- في سياق النقد أو النصيحة: "المؤمن مرآة أخيه", فإن العلاقة بين المرآة والناظر فيها علاقة نقدية موضوعية تكتفي بما يظهر لا خيالية تغوص في باطن الناظر, ثم غايتها تهذيبية لا تشنيعية, فالمرآة الناقد كأنها تريد أن يظهر الناظر فيها في أجمل صورة لدى المجتمع فهي أداة نقد مادية تتسم بالموضوعية لا تترك الناظر يذهب عنها إلا وقد جود صورته وهذبها.
وهكذا تصبح العلاقة في جانب المعنويات, أي علاقة الناقد المؤمن الإنسان بالمنقود المؤمن الإنسان مثلها مثل المِرآة والناظر فيها, فهذه العلاقة تبين أن المؤمن لأنه إنسان لا بد وأن تحصل عنده عيوب معنوية مثل تلك العيوب المادية وانه المرآة.. كما أنها تنقد الظاهر فإنه على الناصح أو الناقد أن ينقد ما يراه عيانا بيانا (لا ما يتخيله) أو يتأوله بسبب غياب إنسانية النقد لتحل محلها ملائكية الناقد وشيطانية المنقود.. حتى أن العلاقة بين المرآة والناظر موضوعية منطقية تصلح الأشياء البارزة لا ما وراءها والنقد في المعنويات يجب أن يكون موضوعياً لا خيالياً ينقد بحجم الخطأ وبما هو ظاهر منه.. ثم تأمل النقد الصامت بين المرآة والناظر ألا نتعلم منه "وجنبني النقد في الجماعة" تظهر فيه صورة المهذِّب لا المؤنِب وتظهر في الجانب الآخر الإنسان لا الملائكي الذي لا يخطئ ولا الشيطان الذي يتماها أو يذوب في الخطأ.
د.حسن شمسان
الإنسانية قيمة معنوية.. بين الملائكية والشيطانية 1721