إن أرضية الساحة الفكرية المتوارثة عندنا نحن العرب ونحن اليمنيون جزء منهم ، ما زالت تعيش في بعضها تتوارث عقلية الأسطورة والخوارق، وتتغذى من فكر العنف والعنف المضاد، التي تعبق بعطر شعر العرب قبل الإسلام, فالشاعر الجاهلي يقول: ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه.. يهدم ومن لا يظلم الناس يظلم. وأضيف له شعر الخوارج وأدبياتهم... وغيرهم :التي تنطلق من القول:
أقول لها وقد طارت شعاعاً.. من الأعداء ويحك لن تراع
فإنك لو سألت بقاء يــــــوم.. على الأجل الذي لك لم تطاع
فصبراً في مجال الموت صبراً.. فما نيل الخلـــــود بمستطــــاع
ولا ثوب البقاء بثوب عــــ... فيطوي عن أخ النخع اليراع
سبيل الموت غاية كل حـــي.. وداعيه لأهــــــــل الأرض داع
ومن لا يعتبط يسأم ويهـــرم... وتسلمه المنون إلى انقطـــاع
والأطفال فكرياً مازالوا يتشربونها لافتقار التعليم والمعلمين والمناهج الى ملكة التمحيص والنقد، و في سنوات عمر النشء الأولى في الطفولة وبعض الآباء يعززون ثقافة العنف، وهكذا تتأسس العادات العقلية، والسلوكيات اليومية، والأطفال يلجأون إلى آبائهم وأمهاتهم، لسؤالهم عن التصرف الرشيد، في مثل هذه الظروف، ولو وجهت سؤالاً للآباء وهو : إذا جاءك طفلك وهو يشكو من ضرب "ابن الجيران" له, فبماذا تنصحه؟ أو كيف توجهه لمقابلة هذه المشكلة؟ أو هل سألته أو حاورته, كيف تحدث مثل هذه الظروف من تبادل العنف؟ لكان الجواب يأتي في معظم الأحيان سريعاً ودون تردد: من ضربك اضربه، ولا أريدك أن تأتي إليَّ شاكياً باكياً، بل اضرب بأشد كي تردعه عن العدوان للمستقبل.
وهنا ننسى في سرعة جوابنا هذا أن هذه ثقافة العنف معممة ، بمعنى: أن كل طفل وكل أب وأم عندهم الشعور أن طفلهم (فقط) هو المسكين والمعتدى عليه ، وأنه البريء المظلوم، وأن ابن الجار هو الشيطان والشقي والمعتدي والظالم، ولكن تباين الأدوار يجعلنا نفهم الموضوع بشكل أفضل حين نتصور أن الجار هو أنا ، وأن أنا هو الجار، عند ذلك سيختلف شعورنا تجاه المسألة ، إن تكريس الثقافة (العدوانية) هو من صنع أيدينا، وإفراز ثقافتنا، ومن خلال أفكار بسيطة للغاية ومبررة تماما تحت دعوى "حق الدفاع المشروع عن النفس"، والذي يحدث في العادة والواقع أن طفلنا "البريء" والرائع, حينما يكون مفتول العضلات، ويعرض توجيه اللكمات بشكل جيد فإننا نفرح ببطولته وبتفوقه على أقرانه وشدة بأسه، ويدخل عالم الأبطال مبكرا، ولكنه إذا هزم في المعارك العضلية، ودحر في المناوشات الهمجية، وجرح في معارك البطولة الوهمية تألمنا أشد الألم ، وشعرنا بأنه "مظلوم مسكين"، وعلى القوى العظمى (الآباء) التدخل حينئذ لحماية هذا البريء، وننسى أننا نحن السبب في إشعال معارك الصغار الأبرياء ، إن أعظم اكتشاف لم نمارسه بعد هو معرفة حقل النفس الداخلي رغم أن الله أمرنا باكتشافه فقال : "وفي أنفسكم أفلا تبصرون" ، وأن القارة المجهولة التي لم نطأها بأقدامنا بعد ليست تلك المختفية وراء لجج المحيطات، بل هي دماغنا الذي نتعامل بواسطته مع العالم كل لحظة، حتى في النوم
وإذا كان وعي الذات هو أرفع أنواع الوعي, فإنه يمثل انقلاباً نوعياً في تصور المشاكل وهندسة معالجتها، فالبشر اعتادوا ولا يزالون عند اندلاع المشاكل اتهام الآخر وتنزيه الذات، وهذا يحمل مجموعة من الأخطاء القاتلة، منها دفع آلية الكراهية إلى مداها الأقصى وإلغاء الآخر، و "فرملة" جدلية الحوار، وباعتماد آلية "لوم الآخر" نكون بشكل آخر قد أحيينا آلية "تنزيه الذات" وتقديسها بعصمتها من الخطأ ، فالعلاقة مرتبطة جوهريا وبشكل غير مباشر بين "إدانة الآخر" و "تقديس الذات" ، وكأن طرفي العلاقة طرفا رافعة ، ثم وبإطفاء روح المراجعة الذاتية وتجميد آلية نقد الذات يكون حقل حل المشكلة قد زحزح تماما ، ففي الوقت الذي نعترف بمشاركتنا، ولو الجزئية في المشكلة نكون قد بدأنا بالحراثة، في الحقل الخصب ، أما اتهام الآخرين، وتنزيه الذات، فإنها تلحق الشلل الكامل بآلية تطهير الذات، وإمكانية تصويبها ، ولم يكن عبثا أن تكررت قصة آدم والشيطان، في القرآن الكريم لأنها تحمل مجموعة ضخمة من الرموز لكل تجليات الوجود الإنساني فالتناقض بين موقفي آدم والشيطان، والتبعات الرهيبة التي بنيت عليها انبثقت من هذه الحركة في اتجاه النفس للداخل أو الخارج في مراجعة الذات، ولو في اتهام الآخر، فالشيطان اختار الأسهل ، فأخرج نفسه من المشكلة ، فهو غير متهم، ولا ملام عن موقفه، حين أحال خطأه إلى مصدر خارجي، فعزاه إلى الله "فبما أغويتني"الأعراف16 ، فهو إذاً لم يخطئ .. هو إذاً كامل بكلمة أخرى رفع نفسه إلى درجة الكمال الإلهي، الذي لا يعتريه النقص، ولا يقاربه الخطأ في حين كان موقف آدم وحواء أنهما قاما بمراجعة قاسية للذات، وكانت المرأة "زوجته حواء" معه ، يداً بيد في هذا الاختبار القاسي ، فردد كلاهما "ربنا ظلمنا أنفسنا"الأعراف23، فالمرأة هنا لعبت الدور المصيري، في إنقاذ الجنس البشري، خلافاً للأسطورة الشائعة : أن حواء هي التي أغوت آدم بالخطيئة، فأكل التفاحة من الشجرة المحرمة، ومع هذه المراجعة النفسية، ومواجهة الذات والاعتراف بالخطأ أمكن لنا نحن البشر أن ندشن إمكانية الارتفاع دون توقف في رحلة العروج الروحية إلى الله ، في الوقت الذي فشل الشيطان في الرهان وهذا ما هو مطلوب منا نحن اليمنيين في المرحلة الانتقالية اليوم ونترك الاقتداء بإبليس.
محمد سيف عبدالله العدينى
ثقافتنا بين إدانة الأخر وتقديس الذات 1323