كنت أقول دائماً بداية ثورات الربيع العربي، أن صفة الربيع العربي قد تتعدد ولن تكون الثورة هي واحدة لنمط واحد في البلدان العربية وقد تكون صفة الإصلاحات السياسية المتدرجة خاصة للبلدان التي تحكمها الأنظمة الملكية هي طريقة وصفة للربيع العربي مثل ما حدث في المملكة المغربية.
اشتعلت الثورة الشعبية في اليمن في فبراير.. ثورة من أجل إسقاط النظام العائلي العصبوي.. من أجل إنقاذ اليمن وليست ضد.. يمر علينا أكثر من عام والثورة مستمرة وستستمر حتى تحقق كامل أهدافها ..فهي تملك أدوات الاستمرار وما يعززها هو التغيير دون انتظار التغيير.. وبما أن الثورة هي فعل شعبي يحركها الزخم والمدد الشعبي ويوجهها, إلا أن الثورة في اليمن (ثورة خاصة) وتحتاج إلى دراسة عميقة لاستيعاب حركة مسارها في ظل مجتمع حذر العالم منه في السنوات الأخيرة.. بلد الـ60مليون قطعة سلاح.
يمكنني هنا قراءة كيف تجاوزت سلمية الثورة ثقافة الرصاص وكيف كانت الحناجر ضد الخناجر وكيف رسم شباب الثورة في الساحات معالم التغيير والتغير لليمن الجديد؟..
يعيب علينا في السابق أن الديموقراطية كانت نتاج نظامين شموليين لم يقتنعا بالديموقراطية كنظام حكم للجمهورية اليمنية من الأساس، وإنما طبيعة الظروف المحلية والعالمية أجبرتهم على تبني هذا الشكل من الديموقراطية الشكلية وفي ذهنية حزبين لا يؤمنا إلا بالشمولية والسيطرة, لكن الديمقراطية التي ستأتي على أنقاض الثورة نتاج نضال وكفاح شعب في الساحات والميادين والشوارع كانت الديمقراطية لديه شعور في الذات وشعور في الكيان الإنساني المتعدد والمتنوع في شتى الميادين والساحات.. بمعنى آخر أن الشعور الديمقراطي قد تجسد في كيان هذا المجتمع بمعناه السياسي والنفسي والاجتماعي.. وعلى الأحزاب السياسية وقوى الضغط الأخرى استيعاب هذا التغيير ونزع فكرة السيطرة والاستيلاء من ذهنها.. وأي ترتيبات قادمة لا تكون رهن العدالة الانتقالية لن تجد لها صدى إلا في مجتمعات ما قبل الربيع العربي.
أما التغير الثاني مر المجتمع اليمني في السنوات السابقة في ركود سياسي وجمود ثقافي وغياب شبه كامل لأي حراك فكري أو ثقافي رسمي أو غير رسمي.. وأي تطور في المجال الفكري أو الثقافي لم يتجاوز سطور هامشية لكاتب لم يتجاوز الطفولة الفكرية.. فقد أدرك شباب الثورة تلك في المرحلة السابقة.. فهم ليسوا من عوام الفكر, بل شباب من أرقى التخصصات العلمية والإنسانية والأدبية.. ماضيهم نضال وحريات، فأول زخرف رسموه إزالة ايدلوجيا وفسيولوجيا الخوف من الحس والأذهان، فاشتعلت جذوة الحرية فنصبوا الخيام في الساحات والميادين وأحيوها بالحركة الفكرية والثقافية.. فحينما كان سوء الظن خاصية فريدة تميز بها العوام، كانت القراءة الفكرية والاجتماعية للواقع والاستعداد الباعث على التضحية وتحمل المسئولية هي الميزة الأكثر وضوحاً في لوحة التغيير والتغير لشباب الثورة.. إضافة إلى اختراع فلسفة إدارية جديدة لإدارة الاختلاف والقناعة الراشدة والراسخة بالمتنوع المتعدد في إطار التعايش السلمي.. فكانت الائتلافات والاتحادات والأنماط الثورية خير مثال لتلك الإدارة, فحينما اعتقد الكثير قبل سقوط النظام أن تعود الشرائح الاجتماعية إلى انتماءاتها القديمة (انتماءات ما قبل الدولة ) إلى عدالة القبيلة وإمبريالية أصحاب المصالح، حينما ساد الظن السيء حول كل ذلك.. رسم شباب الثورة تغيير جديد بعيد عن كل الانتماءات السيئة وتمثلته كل شرائح المجتمع في الساحات كل شريحة بمزاجها النفسي.. فكانت الأخلاق السامية النبيلة اللوحة الأكثر وضوحاً وسلمية الثورة شعاراً تنادي به الأنفس قبل أن تهتف به الحناجر.. فلم تستطع أدوات القمع والعنف كالرصاص والقنابل المسيلة للدموع والغازات السامة التي استخدمها نظام صالح أن تخرج الثورة عن سلميتها أو تنال من عزيمة الثوار.. لقد علموا صالح وبلاطجته أن هذه الأدوات فقدت فاعليتها تجاه إرادات الشعوب وعفا عليها الزمن، وان أدوات العدل والحرية والمعرفة ووسائل تحقيق كرامة الإنسان هي الأدوات الأنجح التي تدار بها الأوطان, فأصبحت أيديهم المتشابكة رمز الثورة السلمية.. وعليها يقف وطن شامخ يعتزم حمايته وبناءه شباب في عمر الزهور ومقتبل العمر..
ولأول مرة في تاريخ اليمن الحديث أن يصل الشعب اليمني إلى سلطته مباشرة ويحقق النص الدستوري (الشعب مالك السلطة ومصدرها) ويقود عملية التغيير مباشرة.. والاعتكاف في الساحات وعدم مفارقتها.. هذه الحرية والانفكاك من أصر نظام صالح كإطار عام للوحة التغيير والتغير، انتتجت جاهزيات جديدة للثورة أتقنت صنعة المبادرة وتوظيف المتاحات والتسريع في الانتفال تحقيق أهداف الثورة.. فتوسعت مساحة الحرية في ساحات وميادين وتجاوزت المستجدات المحسوبة المستجدات المحسوبة وتهاوى نظام صالح.. كما أن التطور الذي طرأ على الثوار هو تطور نحو شكل من الأفكار الحرية العدل والمساواة والمواطنة وهذا أنتج شباباً ومجتمعاً نزع المصلحة الشخصية إلى المصلحة الوطنية.. فالالتقاء في ميدان الفكرة (الثورة) أحدث حراكاً اجتماعياً وقيمياً، فرأس مال أي مجتمع نهضوي ينشد التجدد الحضاري هي الأفكار.. كما يمكن ملاحظة في لوحة التغيير والتغير أن الثورة عملت تحولاً في نفسية واتجاهات المجتمع، فقد بدلت موقفهم بالنسبة للمشكلات المحاطة بهم وأدركوا طبيعتها وأسبابها وربما سلكوا طريقاً فاعلاً في إيجاد حلول لها.. كما لا ننكر أيضاً كيف حولت الثورة الواعية السلبية للإنسان اليمني المشارك بالفعاليات الثورية وبعثت التفاؤل والأمل في حياته.. وبإمكاننا أن نلحظ الحرية في قوالب متعددة كاطار جامع للوحة التغيير والتغير ..ففي أحلك الظروف والأحوال التي تصادر فيها الحقوق والحريات نجد طبيعة الحرية في التوجه لله عز وجل وربط الحس به فكراً وسلوكاً.. هنا أتحدث عن الحرية كقضية نسبية في لحظة بعثها بمعانيها المختلفة في كيان الثوار والثائرات.. فحينما تحرر الحس من المخاوف انفرطت منظومة الاستبداد فتحركت الاقتحامات والحيوية البشرية..
لكن هل يمكن القول أن الثورة في اليمن يمكن أن تكون لحظة تاريخية لإيقاظ الذاتية اليمنية الخاملة لتتجاوز الوجود الهش ليكون لها الأثر الإنساني والحضاري الفاعل؟.. فأعتقد أن هذا التحول يجب أن يستوطن الذاتية اليمنية كمجموع ليصبح ذلك نهجاً حياتياً تتطلبه حياة اليمنيين.
أحمد الضحياني
الثورة الشعبية في اليمن 1465