نبيلة الوليدي
في منتصف نهار صيف لاهب.. الشمس تصافح رأسه.. سار على قدميه من وسط السوق متجهاً نحو مسكنه في أطراف مدينة تعز.. ثمة أحياء حديثة البنيان, جلها مساكن عشوائية, أحياء مترامية الأطراف, جل ساكنيها عمال وباعة بسطاء.. لا تعرف من مشاريع البنية التحتية سوى مسماها!..
هو يقطع بأقدامه الضئيلة مسافات طويلة, كل يوم على طريق ترابي يصل حارته بوسط المدينة ويخترقها كشريان جديد مهمل سيربط منفذها الخلفي بالطريق الدائري.. كم حلم في غدوه ورواحه باليوم الذي سيرصف فيه هذا الطريق وحينها سيصبح بإمكانه استقلال الحافلة العامة, وقتها سيصل لسكنه خلال دقائق.. لكن هيهات.. أوراق مشروع رصف الطريق أكلتها الأرضة في مكتب الإنشاءات, وسمع إشاعة تقول بأن المحافظ السابق نهب الميزانية قبل أن يهاجر لخارج الوطن!..
وثمة رجل ذو نفوذ يقف منزله المترامي الأطراف كشوكة في حلق الشارع, يزهق روح المشروع, ويؤجله للأبد!.. اليوم هو يسير على قدميه مثل كل يوم مضى منذ سنوات.. يتقافز بين الأشجار والأحجار بطول تلك الطريق الترابية وكلما يؤرقه هو هذا الكائن اللذيذ الذي يحمله بين يديه.. تارة يضعه على رأسه وأخرى على ظهره وبعد هنيهة يعود ليتأمله: هل نقص حجمه؟.. يقربه من خده.. يضعه بين جسده وقميصه ليحميه من حرارة الشمس.. وعندما يدرك أن حرارة جسده ستجعل كائنه الجميل ينكمش ويتلاشى يباعده عن جسده المشتعل من حرارة الصيف, ويرفعه بعيداً في الهواء فيسوطه لهب الشمس.. ويبدأ ذلك الملاذ البارد من لهب الصيف بالذوبان ويتلاشى أكثر وأكثر.. يباعد بين خطواته.. ينتهب الأرض ليصل به سالماً لمنزله.. سينعم هو وزوجته وصغاره بقطرات ماء مبردة بقالب الثلج هذا.. لكن هيهات.. المسافة ماتزال طويلة.. قطرات باردة تتسلل من ثقب في كيس الثلج الذي تمزق من أسفله.. يرفعه للهواء أمام شفتيه المتشققة من العطش.. يشربها بتلذذ يسكر جوارحه المتقدة من حرارة الشمس..
أخيراً قرر أن يركض.. ركض وركض.. وفي لحظة تهاوى متعثراً بحجر صغير.. سقط قالب الثلج وتدحرج بين أكوام من القمامة المتعفنة.. تأمله بأسى.. زحف على الأرض, وتناول بقايا حلمه الصغير, وجلس على قارعة الطريق.. خلع نعليه الممزقة وأخذ يقلب قطعة الثلج الصغيرة المتبقية بين قدميه التي تورمت من رحلة السير على هذه الطريق كل يوم.. لفظ قالب الثلج آخر أنفاسه على أخاديد قدميه.. فندت من عينيه دمعة ساخنة لذعت فؤاده المتصحر بعد ما تبدد أبسط أحلامه على أحجار قسوة العيش في وطن بلا طريق, بلا كهرباء, وبلا ماء.. وبلا قالب ثلج.
نبيلة الوليدي
قالب ثلج..!! 1598