المركزية في الحكم هي أشبه بمظلة "الإستبداد" لأن الفرد (الرئيس) من الخارج يمكن اصطياده ومن ثم قياده وعن الانتماء الوطني يسهل استبعاده وعلى الطريقة الخارجية يتم إعداده وعليه تصير مصالح الخارج مقدمة على مصالح بلاده، وهذا التقديم يترتب عليه أن يكون حاكما مستبداً؛ لأنه لن يكون الزعيم مع الشعب في وفاق لأن مصالح الوطن مقدمة عند الأخير باتفاق ومن هنا يحصل بين الزعيم والشعب انشقاق ومن ثم شقاق فيتصيد الوالي من بينهم /أهل النفاق/ فتغيب الشفافية وتحفر الأنفاق ويبدأ تفصيل ما بقى من الوطن على مقاس العائلة وهكذا يبيع نفسه الزعيم ويحرم شعبه النعيم وإذا ما تساءل الأخير لم غاب النعيم؟ يذيقه الزعيم مس الجحيم.
ومن هنا يأتي خطر "الحكم الرئاسي" الذي يتعرض فيه شخص الرئيس بسهولة للمغازلة الخارجية، ويثمن نفسه الزعيم بملايين لكن قيمة وطنه تصبح ملاليم ويعطيه للمشتري أرباحا فذاك صار له مباحا ولا ويُبقي لشعبه إلا نباحاً.
وبناء على ما سبق فإن أي بلد يديره "نظام برلماني" عبر انتخابات برلمانية /شفافة ونزيهة/ فإنه لا يستطيع أحد أن يساوم برلمانا أو يعقد معه صفقة فلم يسمع يوما العباد أن برلمانا قد باع وطنه بالمزاد.. فالبرلمان إذا هو صمام أمان أي أمة وأي دولة وفي الوقت نفسه مصدر قوتها واعتزازها وأي بلد نظامه برلماني؛ هو بلد مستقر أمنيا واقتصاديا وسياسيا وعسكريا ومنعوياً؛ لهذا نجده قويا وفاعلا لا مفعولا به وقائدا لا مقود وسيدا لا مسوداً, فالشعب بمجموعة لا يرضى الذل.
والأنظمة البرلمانية هي خلاصة شعبية وهذه الخلاصة قوامها قيام مبدأ /العدل/ والعدل هو أساس الحكم الرشيد؛ لأن العدل يمثل ضلا ظليلا وسقفا حاميا لقيام /مبدأ الحرية/ فهذه الأخير تنمو وتترعرع تحت سقفه ووظيفتها (أي الحرية) تجعل الراعي والرعية سيان كما لا تكره أحدا على اختيار من يمثله في البرلمان؛ لهذا كانت الحرية -من مصدر قرآني- مقياس حياة (لا مقياس وطن) لهذا هي تحمي الوطن المعنى (الحر السيادة) من أن يباع أو يشترى. فالبشر إنما ولدوا أحرار؛ لأنهم -أصلا- ولدوا مسلمين، ولقد فهم الفاروق عمر هذه العلاقة فقال قولته المشهورة: "متى اسعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرار". اذا فمقولة "العدل أساس الحكم" يترتب عليها قيام مبدأ الحرية على أصوله، وعلى هذا الأخير يقوم الوطن بجميع أركانه وبدونها يكون الوطن ميتا أو هيكلا من دون روح..
ومن هنا دعوني أرجع بكم إلى عصر ما قبل الإسلام إلا أول إدارة برلمانية في الدولة السبئية التي ترجع إليها -تحديدا- مقولة "اليمن السعيد" فمن المؤكد أن هذه المقولة لم ير اليمنيون مضمونه منذ عقود إنما الذي وصلنا حروفها أو حبرها إذا ما سر هذه المقولة ومتى حصل فعلا مضمونه؟..
ليس ثمة شك - بتصوري على الأقل- أن زمن تحقق هذه المقولة لفظا ومضمونا هو زمن أول وأقدم نظام برلماني زمن الملكة الشورية لا "المستبدة" بلقيس. فقد كان مركزها الملكي فخريا بمعنى أن طريقة الحكم لم تكن مركزية إنما أشبه بالبرلمانية؛ فالبرلمان -لو جازت لنا التسمية -هو الذي كان يدير أمور البلاد وهو ما يتضح بجلاء منقطع النضير من قول الله تعالى على لسانها: (يا أيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون) فاستعمال الفعل الماضي يدل على أن هذه الطريقة "اللا مركزية" في الإدارة هي دإبها قديما وحديثا ومستقبلا وهي في الوقت نفسه سر نهضة بلادها وذلك ما سنفهمه من رد برلمانها على فتواها.
إذا فقد كان نظام الحكم برلمانيا بامتياز وكان نهضويا وانهضة التنموية الشاملة نقرأها في عبارة البرلمان حيث قال الله تعالى على لسان البرلمانيين : (نحن أولوا قوة وأولوا بأس شديد).
لقد لخصت الجملتان الاسميتان حال الثبات والاستقرار الذي كان عليه اليمنيون فالتجهيزات العسكرية المادية المعبر عنها بـ (أولوا قوة) على أهبة الاستعداد، وكذلك والمعنوية والتي عبر القرآن ب(أولو بأس شديد) وهذا خير دليل على الرخاء والاستقرار التي كانت تتمتع به الدولة السبئية؛ لأنه يستحيل أن تتحقق القوتان /المادية والمعنوية/ دون أن يكون هناك استقرار اقتصادي وبالقدر نفسه يستحيل ان يكون هناك استقرار اقتصادي ما لم يسبقه استقرار أمني ومن هنا كان التعبير عن القوة والبأس الشديد يختزل تحت دلالته ذلك الاستقرار في البلاد في كل نواحيه الأمنية والاقتصادية والعسكرية والمعنوية، وعماد ذلك كله الحق والعدل الذي بدوره وفر سقف "الحرية" وهذه الأخيرة قد أفسحت للشعب حرية الاختيار وطريقة حكم البلاد والعباد لهذا كان الحكم البرلماني وليد حرية الرأي والديمقراطية الشفافة وهو أيضا من جعل الحياة في اليمن نظيفة ومن ثم سعيدة لأنه في هذا السياق البرلماني لن يعيش الاستبداد ولن يفرخ إذا فالاستبداد والمركزية في "إدارة البلاد" هو شر الفساد.
وهذا ما نرجوه من الثورة ونتائج الحوار إذا ما أردنا أن نعود باليمن إلى ماضيه العريق الممتلئ بالحوار والشورى والمجافي للمركزية والاستبداد نعم لقد كان ماضي السبئية عريقا في حين كان ماضي الفراعنة /غريقا/ لا لشيء إلا لأنه كان مستبدا وسلك سياسة المستبدين (ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد) فلماذا لا يكون لنا اعتبار وعبرة فقد كان ماضينا جميلا وسعيدا لأنه بنى دولته على أساس برلماني حقيقي ما كان الملك ليقطع فيه برأيه أو بمركزه أي لما كان مركز الملكة فخريا وكان الحكم برلمانيا تركوا لنا ما نفاخر به بين الشعوب ولأمم فنحن نفاخر بماضينا فدعونا نفاخر بحاضرنا فمن لا يكون له ماضي فليس له حضر وماضينا قد جعله ناصعا النظام البرلماني وحفظ تراثه لنا القرآن فأرجو ألا نكابر حتى لا نفسد الحاضر ونطمس هوية المستقبل.
د.حسن شمسان
البرلمان.. وعلاقته بيمن الحكمة والإيمان ! 1239