سمعنا وقرأنا في عصر ما قبل الإسلام عن حكومة أو دولة قريش وأنها كانت آنذاك على شأن من السيادة والريادة وساد القرشيون العرب, لأنهم كانوا أصحاب فصاحة وبلاغة؛ أي انطبقت عليهم مقولة معلمي الديمقراطية "من يمتلك الكلام يمتلك السلطة".. ولما كان القرشيون أرباب الكلام كانوا في الوقت نفسه أرباب السياسة والسيادة, فلما نزل القرآن على الرسول -صلى الله عليه وسلم- وسمع به كبار قريش كان بعضهم يتسلل ليلاً أو نهاراً يسمع خطابه، فما كان منهم إلا الانبهار من تلك الفصاحة والبلاغة وقد عبر عن ذلك الوليد ابن المغيرة؛ عندما قال كلمته المشهورة عن القرآن والذي آخرها: "وإنه ليعلو ولا يعلى عليه" وحينها لم يسع كبار قريش إلا أن قالوا أو قال الله تعالى -على ألسنتهم: (لولا أنزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم), فهم إذاً ليسوا في خلاف مع القرآن وبلاغته وفصاحته؛ لكنه شأن السيادة والريادة؛ فقد أيقنوا أن فصاحتهم سوف تتهاوى أمام فصاحة القرآن، وبالتالي يتهاوى سلطانهم؛ ولما وجدوا أن خطاب القرآن مقنع راحوا يطعنون فيه, آمرين قومهم بعدم الاستماع إليه, بل واللغو فيه حتى لا يلتف الناس حوله وحتى تبقى سلطتهم مصالحهم, ففكروا في مصالحهم الضيقة ولم يفكروا يوما أن القرآن سيجعلهم سادة العالم، لكنهم يفضلون أن يظلوا عبيداً تابعين مقابل بقاء مصالحهم الضيقة.
صحيح أن قريش اشتهرت آنذاك بالفصاحة والبلاغة, فكانوا أرباب قول وفي الوقت نفسه أرباب سيادة، لكن في الوقت نفسه كان اليمنيون أصحاب حكمة وهذه الأخيرة منحتهم كل شيء، لأن الحكمة بنت العقل وقريبة الحوار؛ أي لم يكن اليمنيون يوماً معاول هدم أو استبداد, إنما كانوا معاول بناء، هكذا شهد لهم القرآن ودون لهم تاريخهم؛ لهذا كانت الحضارة السبئية في اليمن تضاهي الحضارة الفرعونية في مصر آنذاك؛ إلا أن الأولى فاقت الأخيرة من حيث طريقة الحكم وإدارة البلاد؛ ومرجع ذلك الحكمة؛ حيث كان الملوك في اليمن- الملكة بقليس أنموذجاً- لا يستبدون بالحكم, فقد كان مجلس الشورى أو البرلمان هو الحاكم الفعلي، وهذا هو سر تسمية اليمن بـ "اليمن السعيد", فهي تسمية ترجع إلى عهد الملكة الحكيمة بلقيس، حيث لم يشهد هذا اليمن بهذه الصفة كاتب المقال ولا أبوه ولا جده.. الخ. لكن لما سطر القرآن الكريم إرثا مشرقا لليمنيين: (يا أيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمراً حتى تشهدون), فلهم باع طويل مع الحوار نتج عنه اليمن السعيد الذي كان يتمتع بالاستقرار الأمني والاقتصادي وهو ما يفهم من رد الملأ أو البرلمان السبئي (نحن أولي قوة وأولي بأس شديد) ولا أظن أن هذه القوة المادية والقوة المعنوية جاءت من فراغ, بل من حكم رشيد حكم لم يعرف الاستبداد الفردي.
لقد كان ذلك هو إرثنا وهو ما سجله لنا قرآننا، في حين أنه قد سجل للمصريين وفي الوقت نفسه إرثا استبدادياً؛ ولست عنصريا قطرياً, لكنها حقائق التاريخ التي سجلها أصدق كتاب, إنه السجل القرآني (الذي لا يأتيه الباطل من بيد يديه ولا من خلقه)؛ فإذا كان القرآن قد قال عن نظام إدارة الدولة في اليمن وعلى لسان الملكة: (يا أيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون) فقد سجل لملوك الفراعنة المصريين نقيض ذلك؛ حيث قال تعالى على لسان ملكهم أو فروعنهم الأكبر (ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد)..
ولو تأملنا في الواقع المعاصر لوجدنا أن اليمنيين انصاعوا للحوار؛ لأن ذلك إرثهم الكريم؛ في حين أن الإخوة في مصر لم يحصل منهم ذلك التجاوب؛ وكأن جبهة الإنقاذ قد استنت سنة فرعون التي كان نهايتها الغرق؛ وهي سنة أو إدارة (ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد), فلم تستجب جبهة الإنقاذ- كما تسمي نفسها مثلما سما فرعون نفسه- لكل دعوات الحوار التي وجهت إليها، لكننا في اليمن والحمد لله جذبنا إرثنا للحوار, فهذا إرث ملوكنا، وذلك الاستبداد إرث ملوك المصريين.
ما أود الوصول إليه من هذه المقدمة إنه لما كانت وظيفة الحوار إقناعية لأن يغلب أو يقدم العقل ويؤخر العاطفة التي تنزع إلى الحزبية تارة وإلى القبيلة تارة ثانية وإلى الأسرية تارة أخرى وهكذا دواليك وليس ثمة شك أن العقل والحكمة والحكماء سوف ينزع كل ذلك إلى المصلحة العليا للوطن التي هي قاسم مشترك يجتمع عليه كل اليمنيين، وهذا يترتب عليه أن تكون عاقبته ,أي الحوار, هي أقرب إلى الخير وأبعد من الشر، لهذا نرى لسان حال بعض المتآمرين وأصحاب المصالح الضيقة كحال أولئك النفر من قريش [لا تسمعوا لهذا الحوار والغوا فيه لعلكم تغلبون] لأنهم يدركون أن الحوار هو السلاح الأبيض الناعم وهو من سيخرج اليمن إلى بر الأمان وسيجعلهم في طي النسيان ,إن لم في سجل المحاسبة.
صحيح الحوار, وفي بلد أهل الحكمة والحوار, تفاؤل, لكنه لا يمنع من التساؤل.. ليس ثمة شك أن الحوار يفضي في النهاية إلى ما تهدف إليه الثورة من أهداف و /وزيادة/ والزيادة هي حقن الدماء اليمنية الغالية والحفاظ على سمعة الثورة السلمية، وعكس صورة مشرقة عن اليمنيين الذي سبقت حكمتهم قوتهم وبأسهم الشديد, لكن هذا الإرث الكريم لا يمنع أن نضع تساؤلات أترك للقارئ الإجابة عليها وهي كالآتي:
لماذا راعي الحوار في اليمن ذئب في سوريا؟ وهل فضل ورقة الحوار في اليمن لأنه راضٍ عن ثورة اليمنيين؟ وعليه تكون العراقيل والحفر والمطبات التي تصطنع أمام عجلة الحوار يمنية بحتة؟ وليس لها داعم خارجي! أم أن دماء اليمنيين نفيسة عند المجتمع الدولي من الدماء السورية؟ ولماذا لم يعط المجتمع الدولي الضوء لصالح لقرع طبول حرب في اليمن مثلما أعطى الضوء نفسه لبشار؟, فكلنا يعرف أنه باستطاعة المجتمع الدولي وقف الحرب إذا أراد فلما لا يوقفه إذاً؟.. هذا الإيقاف قد أصبح من سابع المستحيلات؛ بسبب بسيط وهو أن هذا المجتمع المتآمر قد غض الطرف عن استخدام السلاح الكيماوي المحرم دوليا! ولماذا فضل ورقة الحوار أيضا في مصر وتونس بالإضافة إلى اليمن؟ ولم تدخل عسكريا في ليبيا؟.
كل هذه أسئلة هي على درجة من الوجاهة والإجابة عنها تؤكد أن ورقة الحوار في كل من اليمن ومصر وتونس ليس من أجل عيونهم ولا من أجل نفاسة دمائهم, لكنها بتحليل بسيط للمواقع الجغرافية لكل من اليمن ومصر وتونس والدول المجاورة لها نصل إلى الإجابة وبدون قليل تفكير؛ بمعنى أن ورقة الحوار في هذه الدول تخدم المصالح الغربية وليس حرصاً على الدماء العربية, فليس هناك أرخص منها عند المجتمع الدولي، وهذا يوصلنا إلى نتيجة أخرى هي في غاية الأهمية؛ فالحوار أو اختيار ورقته ليس ضرورة وطنية تونسية مصرية يمنية إنما مصلحة غربية وهو أي الحوار وإن ظل ورقة لا تقتل الناس وتحقن دماءهم, إلا أنها في الوقت نفسه تغتال معانيهم وأحلامهم البسيطة والمتواضعة بغد مشرق ممتلئ بأهداف ونور الثورات وغير ممتلئ بظلم وظُلم المبادرات.
د.حسن شمسان
لا تسمعوا لهذا الحوار والغوا فيه لعلكم تغلبون! 1487