لم أشعر عند قراءة رؤية الحراك الجنوبي لجذور القضية الجنوبية, والمقدمة لمؤتمر الحوار الوطني, بأن من أعدو هذه الرؤية ووضعوا خطوطها العريضة كانوا حريصين على تشخيص جوهر هذه القضية وبواعثها التاريخية, أو أنهم كانوا جادين في تقديم رؤية متبصرة للأوضاع في الجنوب والتي جعلت منه يرتهن لجيل مسكون بالصراعات والانفعالات وثقافة الاقصاء بداية من الاستقلال واستبعاد جبهة التحرير من المعادلة السياسية وانفراد الجبهة القومية بالسلطة وقيام الحزب الاشتراكي اليمني الذي تمكن من الاستحواذ على مقاليد الحكم وإخضاع كافة التجنحات القبلية والعشائرية والمناطقية لايدلوجيته الماركسية وخياراته السياسية, على الرغم من كل صراعاته الداخلية التي كان أشدها ضراوة الصدام الدامي في 13 يناير 1986م والذي أدى إلى انقسام الحزب إلى فصيلين هما: (الزمرة) و(الطغمة)..
ولم أشعر أيضاً بعد اطلاعي على مجمل تفاصيل رؤية الحراك الجنوبي بأن من رسموا منطلقاتها وأفكارها قد أرادوا من خلال هذه الرؤية توصيف الأزمة البنيوية التي عاشها الجنوب قبل الوحدة أو بعدها ووضع المخارج والحلول لها, بقدر اهتمامهم بالبحث عن مثالب الوحدة, لتأتي رؤيتهم أشبه بـ (عريضة اتهام) ضد الوحدة والتي قيل عنها أنها من سعت إلى تكريس (يمننة الجنوب) وتحويله من جنوب عربي إلى جنوب يمني وإلى طمس هوية هذا الجنوب وخصوصياته الثقافية والانحراف بمناهجه التعليمية وإفساد مدنية مجتمعه وتعويق مساراته الحداثية و و الخ..
وإذا كان ما جاء في هذه الرؤية قد فاجأنا, لكنه فتح أعيننا على ما لم ندركه أو نره في أمر هذا الحراك الذي حرص منتجوه ومخرجوه هذه المرة على كشف سقف مطالبهم الحقيقية والتي ليس من بينها قضايا معاشية أو حقوق فردية, كعودة المفصولين من المدنيين أو العسكريين إلى وظائفهم, أو تعويض المتضررين من حرب صيف 1994م, أو غير ذلك من المطالب التي كنا نعتقد أو نتصور أنها محور المشكلة, وإنما هي مطالب تتعلق باستعادة الهوية المسلوبة وفك الارتباط مع الوحدة.. وهو ما يؤكد على أن تيارات الحراك, الصقور منها أو الحمائم, تتفق جميعها في الغايات والأهداف حتى وإن اختلفت في الوسائل وانها من تتوزع الأدوار, فتيار يقوم بتحريك الشارع وتحريضه على عمليات التصعيد والعصيان وأعمال العنف والشغب وإقلاق الأمن والاستقرار بشكل مستمر وشبه يومي في محافظة عدن وغيرها من المحافظات الجنوبية, فيما يقوم الطرف الآخر بإدارة النشاطات السياسية داخلياً وخارجياً, بما يعمق لدى الآخرين القناعة بأن الانفصال أصبح مطلباً ملحاً لجميع أبناء الجنوب الذين أتوا بدولة ويسعون إلى استعادتها.
والمؤسف حقاً أن رؤية الحراك الجنوبي لم تكتف بما حملت من خزعبلات وهلوسات ومغالطات تاريخية وتسطيح وتضليل لوعي الناس, بل عمدت إلى استفزاز مشاعر أبناء المحافظات الشمالية عبر تلك اللغة العنصرية التي توحي بأن الوحدة قد جرت بين طرف متحضر وآخر متخلف, وبين مجتمع كان في أعلى مراتب الرقي وبين مجتمع يعيش في القرون الوسطى, وهو ما يجعل أبناء الشمال يشعرون بأنهم صاروا مستهدفين لمجرد تمسكهم بالوحدة ولحمة ترابهم الوطني, بل إن الكثير منهم لم يعد يفهم لماذا تكال لهم التهم فيما معظم مفاصل السلطة هي بيد قيادات جنوبية, فرئيس الجمهورية ورئيس الحكومة ورئيس السلطة القضائية ووزير الدفاع وعدد كبير من أعضاء الحكومة ومحافظ البنك المركزي, هم من أبناء الجنوب, كما أن معظم قيادات الهيئات والمؤسسات والأجهزة العسكرية والمدنية جنوبية, وإذا ماقبلت هذه القيادات بالانفصال فإن أبناء المحافظات الشمالية لن يقفوا حجرة عثره أمام أي خطوة تؤدي إلى فك الارتباط بعد أن أصبحت علاقة بعض أبناء الجنوب مع الوحدة كعلاقة زوجين وصل الخلاف بينهما إلى ذروته ولاحل لهما غير أبغض الحلال؟!.
فلماذا يشتم أبناء الشمال وينعتون بكل تلك التهم وهم من قدموا للوحدة التنازلات تلو التنازلات, فالمحافظات الشمالية هي الأعلى في معدلات نسب الفقر ومحافظاتهم الأقل حظوة باهتمام الدولة مقارنة بالاهتمام الذي تحظى به المحافظات الجنوبية, كما أن ماتم انفاقه على مشاريع البنيه التحتية خلال سنوات الوحدة في المحافظات الجنوبية يفوق أضعافاً مضاعفة ما أنفق في المحافظات الشمالية, كما أن عائدات الدولة من الثروة النفطية والغازية والموارد الضريبية من الشمال تصل إلى 65% من إجمالي الموازنة العامة, فيما عائدات الجنوب, الذي يقال إن ثرواته تنهب من أبناء الشمال, تتوقف عند إيرادات 180 الف برميل يومياً من النفط والتي لا تغطي عائداتها ما ينفق على الموظفين من أبناء المحافظات الجنوبية, وذلك ما يدلل على أن المستفيد الأول من الوحدة هم أبناء الجنوب؟!.
ولماذا يشتم أبناء الشمال على وحدويتهم مع أن الوحدة مع الجنوب لم تكن حصيلة ضم قسري أو غزوعسكري, كما أن الوحدة لم تكن بناءً على رغبة الشمال, بل كانت حالة معاكسة, حيث كانت القيادة الجنوبية هي الأكثر الحاحاً في طلب الوحدة نتيجة ضغوط شعبية بعد أن شعر الجميع بأن الدولة في الجنوب في طريقها إلى الانهيار بعد سقوط الاتحاد السوفيتي بفعل الصراعات الداخلية وتوقف الدعم الخارجي, ولايخفى على احد أيضاً بان الشمال قد دخل الوحدة وقيمة الدولار لا تتجاوز التسعة ريالات؟!..
وإذا كنا نجد لأهل الجنوب السوداني عذراً في التاريخ, وربما اللغة أو الدين أو العرق, حينما سعوا إلى الانفصال عن شمال السودان, فأي عذر يمكن أن نجده لقوم يجتمعون في الدين واللغة والتاريخ والثقافة والآلام والآمال وموائد الطعام وهم يمعنون في تكسير ركبهم لكي لا ينهضون أبداً؟!.
علي ناجي الرعوي
الوحدة.. وأبغض الحلال!! 2708