بعيداً في أقصى جنوب شرق آسيا، وبصوتٍ خافتٍ ضعيفٍ لا يكاد يُسمع، ولا تبين كلماته من أنات الألم وآهات الوجع، من تحت الأنقاض، ومن داخل المسالخ والمذابح، ومن بين الأزقة المهدمة، وبقايا البيوت المخربة، ومن بين أصوات الرصاص، ووقع الفؤوس، وضربات السكاكين والسيوف، يستغيث مسلمو ميانمار، ويجأرون إلى الله بالدعاء، يسألون المسلمين النصرة، ويطلبون من المجتمع الدولي النجدة، ومن كل أصحاب الضمائر الحية الوقوف معهم، فقد ساءت أحوالهم، وقتل رجالهم ونساؤهم، وحرقت بيوتهم، وسرقت ممتلكاتهم وحاجياتهم البسيطة، فلا شيء من آثارهم قد سلم، ولا بيت من بيوتهم قد بقي، كل شيء قد نُسف ودُمر، بحقدٍ ولؤمٍ لا يعرفه الإنسان، وكرهٍ وعنفٍ لا يملكه الحيوان.
في أحياء ميانمار يُشنق الأطفال، ويعلقون على الأعمدة والنوافذ، وتتدلى أجسادهم من السقوف، تلتفُ على أعناقهم الصغيرة اللدنة، حبالٌ خشنة، مفتولةٌ بالحقد، ومجذولةٌ بالشر، يخنقون أنفاسهم، يحرمونهم من الحياة، يحرقونهم وهم أحياء، يقطعون أوصالهم، يستأصلون أعضاءهم، يعبثون بأجسامهم تمزيقاً وبقراً وتقطيعاً، لا تأخذهم بهم رأفةٌ ولا رحمة، رغم أنهم أطفالٌ صغار، أولادٌ وبنات، لا يعرفون من الحياة شيء، حتى براءة الأطفال التي كانت لهم، قد نزعوها منهم، حرموهم من طفولةٍ طاهرةٍ بريئة، لا تحمل الحقد ولا الكره، ولا تعرف الشر ولا الضرر، ولكنهم وأدوا طفولتهم، وقتلوا براءتهم، وتعمدوا نشر صورهم وهم يعضون على ألسنتهم نتيجة الحنق، أو تسيل الدماء من أطرافهم وهم يحاولون رفض الشنق، ومقاومة الموت.
بناتنا في ميانمار تنتهك أعراضهن، ونساؤنا يصرخن وهن على فراش الهتك قبل القتل، أيا أيها المسلمون أين أنتم، وا إسلاماه أنقذونا، أغيثونا، كونوا معنا، امنعوا السيف الذي يقطع أوصالنا، انزعوا من أيديهم الخنجر المغروس في أجسادنا، أطفئوا النار التي تخرج من بطونهم كاللهب، وترمي بنارها كالشرر، تحرق وتدمر، أوقفوا أقدامهم التي تدوس كالفيلة، وتخرب كالعير، فأقدامهم قد ساخت في بطوننا، وأرجلهم قد لونتها دماؤنا، وبقايا أجسادنا قد علقت بأجسامهم، وهم يفرحون بما يرتكبون، ويطربون لما يسمعون، ولا يأبهون لأحد، ولا يخافون من منتقم، ولا يتوقعون أن يهب لنجدة المسلمين معتصم، فقد أيقنوا أن معتصم هذا الزمان، قد أصابه النعاس، أو نال منه التعب، فخلد إلى النوم، أو أصابه هو الآخر الموت، فأوغلوا في القتل، وبالغوا في التعذيب والطرد والتطهير.
في ميانمار ترتكب اليوم جريمةٌ كبيرة، لم يعرف العالم مثلها من قبل، ترتكبها الحكومة البورمية، ويقوم بها الجيش، وينفذها مواطنون بوذيون حاقدون، يكرهون الإنسان، ويحقدون على المسلم، ويحاربون شهادة التوحيد، ويريدون أن يطفئوا كلمة الله، وأن يقتلوا حفظة كتاب الله، وأن يخرسوا الأصوات التي تنطق بـــ"لا إله إلا الله"، فلا تصدقوا أن الحكومة هناك تمنع أو تصد، إنها تفتك وتقتل، ولا تصدقوا أنها تحمي وتدافع، إنها تعتدي وتقاتل، فلا تقبلوا منها تبريراً أو تفسيراً، ولا تقدروا لها حجة أو تسمعوا منها قصة، فلا يبرؤها من الجريمة اعتذار، ولا يطهرها محاولة استدراك، فقد قتلوا وطردوا مئات آلاف المسلمين، ومازالوا على دمويتهم يمضون، ينفذون بخطةٍ ومنهج، ويقتلون برغبةٍ ونهم، تزيدهم الدماء المسفوكة وحشية، وتعمق أصوات الاستغاثة لديهم الحقد والكره الدفين.
العالم كله يشهد هذه الجرائم ويرصدها، ولكنه يقف أمامها عاجزاً ولا يحرك ساكناً، وقد كان بإمكان المجتمع الدولي أن يتحرك نصرةً لهم، وأن يوقف المجازر التي ترتكب بحقهم، فهو لا يحتاج إلى دليل، ولا تعوزه قرينة، فكل الجرائم ترتكب في ميانمار في وضح النهار، وبعلم واعتراف السلطة الحاكمة، فإلام الصمتُ وحتى متى، فلا بد من تحركٍ فاعل، وإرادةٍ صادقة، ترغم الحكومة وتجبرها على التراجع والكف عن هذه الممارسات الدموية، علماً أن ما قد لحق بالمسلمين كثير، وأكثر بشاعةً وفظاعةً من الخيال، فلا يعوضهم عنه اعتذار، أو توقفٌ عن أعمال القتل، فالخسارة أكبر من أن تعوض، وأعظم من أن تستدرك، فقد طالت المسلم ودينه، ودمرت بيته ومدرسته ومسجده، وحرقت قرآنه ومزقت كتبه، وهدمت مقابره واعتدت على حضارته.
ألا ترى الصين ما يجري بالقرب منها، وعلى حدودها وفي مناطق نفوذها، وهي التي ترعى حكومة ميانمار وتساندها، وتشترك معها في تجارةٍ واستثمار، وترتبط معها بمصالح ومنافع، ألا ترى وهي واحدة من القوى العظمى المنوط بها حفظ السلم والأمن الدولي، وصيانة حقوق الإنسان وضمان عدم الاعتداء على معتقداته؟!.. إن ما يجري من حليفها في ميانمار إنما هو جريمة كبيرة، واعتداءٌ غاشمٌ على الإنسان، ألا تملك القدرة على وقف الظلم، ومنع القتل، والانتصار للقيم الإنسانية التي تدعو لها؟!.. إنها وروسيا واليابان ودول العالم التي تدعي الحضارة والمدنية والتطور، إنهم جميعاً شركاء في الجرم، ومسؤولون أمام العالم عما يجري في هذه البقعة الصغيرة المجاورة لهم، ضد مسلمين ضعفاء، ومواطنين عزل من كل سلاح، فعليهم أن يتحركوا بسرعة لوقف الجريمة، وإعادة الحقوق لمسلمي ميانمار، وضمان الأمن لهم في المستقبل.
أيها المسلمون لا تنسيكم همومكم الخاصة محنة إخوانكم المستضعفين في ميانمار، ولا تنشغلوا عنهم بمشاكلكم، فهم لم يتخلوا يوماً عنكم، ولم يتأخروا عن نصرتكم، فرغم فقرهم فقد كانوا لمقاومتنا يتبرعون، ورغم جوعهم فقد كانوا تضامناً معنا يضربون ويصومون، ورغم القهر فقد كانوا نصرةً لقضايانا يتظاهرون ويعتصمون، وهم عنا بعيد، لا يصيبهم من عدونا سوء، ولا يلحق بهم منه شرٌ ولا ضرر، وهم يتطلعون إلى اليوم الذي يدخلون فيه المسجد الأقصى، مقاتلين من أجله، وعاملين على تحريره، ليكونوا يوماً ممن أكرمهم الله سبحانه وتعالى بالصلاة فيه، فثورا لأجلهم، وانتفضوا نصرةً لهم، وكونوا لهم سنداً يقويهم، وعوناً يرفع عنهم الظلم، ويوقف فيهم القتل.
د. مصطفى يوسف اللداوي
ميانمار تستصرخ وتستغيث 1367