حقاً لقد سلك اليمنيون طريقاً آمناً تصل بهم إلى برِّ الأمان وتُبلِّغهم غايتهم التي ينشدونها وبها يتوصلون إلى حل جميع مشاكلهم المختلفة, هذا الطريق هو (الحوار الوطني ) الذي يشارك فيه كل الوطنين والوحدويين وكل محب للتربة اليمنية الموحدة وكل منتمٍ لليمن, لا لأجندة خارجية أياً كانت ذلك.
إن الله خلق الإنسان تواقاً إلى التواصل والحوار مع من حوله من أبناء جنسه وعلمه علوماً شتى, قال تعالى (وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَـؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ).. وقد اعتمد اللغة وسيلة للتواصل وعندها يكون الحديث أقوى المتع في حياة الإنسان, لان الحياة بدون التفاعل مع الغير تبعث على الضجر والسئم, فالحوار خُلُقٌ من أخلاق الإسلام وهو أمر مشروع, فقد حاور الله تعالى الملائكة والأنبياء, كما تحاور الأنبياء مع أقوامهم من المشركين وعبدة الأوثان وتحاور المسلمون مع بعضهم في الغزوات ومع غيرهم, بل إن الحوار نوع من كرم الضيافة عند العرب قال الشاعر عروة بن الورد :
فِراشي فِراشُ الضَيفِ وَالبَيتُ بَيتُهُ
وَلَم يُلهِني عَنهُ غَزالٌ مُقَنَّعُ
أحَدِّثُهُ إِنَّ الحَديثَ مِنَ القِرى
وَتَعلَمُ نَفسي أَنَّهُ سَوفَ يَهجَعُ
وللحوار معنى شامل, فليس الهدف منه حل المشاكل فحسب, بل فيه كسب للعلم وتلقي للمعارف وهو السبيل الوحيد لذلك في مرحلة بقاء الإنسان في هذه الحياة وبدونه لا يمكن أن ترتقي الأمة وتتقدم وتتطور ولن تنتقل الخبرات من أمة إلى أخرى وجيل إلى جيل, لا سيما وان الحوار كفيل بجعل الفكر ينبض بالحياة والحركة والتجدد من خلال التواصل بين العقول والأفراد والجماعات لإدراك المعلومة وتمحيصها وتفهم معانيها فصيغ الحوار وأشكاله اتسمت به كل فترة من فترات التاريخ الإنساني.
وللحوار طبيعته وشكله ومعانيه في المجتمعات الإنسانية عبر التاريخ وصولاً إلى الشكل الذي اصطبغ به عصر النهضة الحديثة, فقد ظهر لنا بوضوح مع نهاية القرن الرابع الهجري تراجع الحركة الفكرية السائدة وتوقف الترجمة ولم يعد هناك مكان للفكر والفكر المضاد..
فقد خلَدَ العلماء والمفكرون إلى الراحة في هذه الفترة واكتفوا بما خلده لهم الأولون من المعارف والعلوم وبهذا يكون العلماء قد غلب عليهم التقليد ورضوا به خطة لهم وأصبح الكثيرون منهم راضين به وتاركين الاجتهاد المطلق وكأنهم شعروا باكتمال جوانب المعرفة وعدم حاجتهم إلى الإبداع والابتكار وكان لهذا التراجع الفكري سبب هام يتمثل في انشغال العلماء بتدوين المعارف السابقة والقيام بتمحيصها وتعليلها, مما أبعدهم عن التفكير بأي شكل من أشكال الحوار الجديد, هذا بالإضافة إلى الملل الذي أصاب المجتمعات الإسلامية فترة من الزمن دون الوصول إلى حسم أي من مسائل الخلاف العقائدي والمذهبي وقد أدت هذه الأسباب مجتمعة إلى تراجع الحوار والحد من انتشاره وازدهاره كما كان عليه الأمر في القرون السابقة وما وجدت بعد القرن الرابع الهجري من حوارات ومناقشات علمية ومساجلات كلامية بقت حبيسة المصنفات والكتب بسبب توسع رقعة الدولة الإسلامية وانتشار التدوين وبعد المسافات وعدم توفر المناخ العلمي القائم على أرضية مشتركة بين المفكرين.
وإذا كان الهدف من الحوار فيما سبق هو الوصول إلى معرفة حكم من الأحكام أو استنباط قاعدة شرعية أو تأصيل فكرة معينة أو غير ذلك, فان الهدف منه في هذه القرون المتأخرة هو إصلاح ذات البين وحل المشاكل وفض النزاعات وإنصاف المظلوم والتآخي بين أبناء الوطن الواحد سواء كانوا في الداخل أو الخارج والرقي بالأوطان نحو النهضة العلمية الحديثة..
ولقد ذكر ابن السراج فقال :دخلنا على ابن الرومي في مرضه الذي توفي بسببه فأنشدنا:
وَلَقَدْ سَئِمْت مَآرِبِي
فَكَأنَ أَطْيَبَهَا خَبِيثُ
إلَّا الْحَدِيثَ فَإِنَّهُ
مِثْلُ اسْمِهِ أَبَدًا حَدِيثُ
ونحن اليمانيون نرسم من خلال مؤتمر الحوار الوطني مستقبل أفضل ويمن جديد موحد.. نسأل الله لكل المتحاورين التوفيق والنجاح والسداد.
أحمد محمد نعمان
الحِوَارُ فِي نَظَر التَّارِيِخ!! 1293