لست أعرف من أين جاءت للوطن عدوى المحاصصة والتقاسم وجعل البلاد غنيمة وإرهاق الحياة كلها في التهافت والتزاحم على المناصب والمواقع القيادية .ولست أعرف أيضاً ما الذي جعلنا ندخل في هذه الدوامة المرهقة لتُقصى قدرات وتُهمش كفاءات ويعتلي منابر القرار من ليسوا أهلاً له سوى أنهم من أحزاب وما أدراك ما الأحزاب في بلدان متخلفة ماتزال ذهنية مواطنيها مشروخة وقائمة على عقد المناطقية والعصبية وأمور أخرى .
ولا عجب والحال كذلك أن نجد الأحزاب تفرز التخلف وتنتجه بامتياز فهي التي تحاور نفسها ،وتقرر لنفسها، وتدفع بنفسها إلى مواقع قيادية بغض النظر عما نسميه مواطنة متساوية وتكافؤ فرص واحترام كفاءات وقدرات وما ندعيه من أننا نتجه صوب دولة مدنية حديثة, فيما هناك من قعر التخلف وإنتاج الأزمات تطل الأحزاب بتقاليد بالية وتفكير عقيم ولا تفترق في هذه الحال عن العصبوية القبلية والشللية والأسرية في شيء. فقد تتعدد الأسماء وإنتاج التخلف واحد .ومن المفارقات العجيبة أن يكون مثقفو الأحزاب في طليعة القوى التي تبرر للخديعة وتعمل على تحسين الصورة لشروخ في جدار وطن وهو أمر بات يقلق القوى التي تتطلع إلى مواطنة متساوية بصدق ودونما شعاراتية فجة وتزييف لواقع والبحث عن فرص لتحسين مستوى المنضوين في هذا الحزب أو ذاك بغض النظر عن أي استحقاقات أخرى هي لآخرين ،فكل ذلك لا يهم أمام إيجاد فرص وظيفة للكادر الحزبي على حساب الإنتاجية والعمل ،لتطل علينا قوى لا تفقه شيئاً في الموكل إليها من مهام بناء، وتحجم القدرات القادرة على الإنجاز لأن ثمة حزباً يفكر بطريقة متخلفة لمعالجة قضايا كادره وليس وطنه .هكذا ينتقل الوطن في معاناته من قبضة وهيمنة أسرة إلى قبضة محاصصة وتقاسم وبحث عن معالجات حالات أفراد وليس شعب، ويغدو الواقع أسير هذا التفكير البائس والوطن نهب محاصصة وقعنا فيها ، فلا يسأل أحدٌ أحداً عن قدرات (س أو ص)من مرشحي حزب ما ،قدر السؤال عن الحصة المتبقية لتكون من حقه مثل سابقه .وهكذا نقف على ألم ويتلاشى أمل وتنتصر الفوضى على القانون ، والقبيلة في شكل حزب على الدولة أطماع ونهب والشعارات المزيفة تلون المتبقي من التهالك باسم شراكة مجتمعية وتكافؤ فرص .فيما الشعاراتية هذه تتكشف للجميع وتغدو كذبة تطال الحياة كلها وتلفيقاً مستمرأً. والأصل أن الحزبية هي التي تفعل فعلتها وتقدم نفسها بروح لا مسؤولة ولاديمقراطية لتنوب عن شعب بأسره وتقرر مصير وطن بأسره ،وهكذا نقع من سيء إلى أسوأ لأن الجميع أتجه إلى التقاسم... ولم أجد بلداً عبر التاريخ انتهج المحاصصة ونجح فيها مهما كانت قسمة عادلة ،لأنها في الأساس مبنية على تمترس وتعصب وإقصاء وعلى طمع وربحية وأقرب إلى الفيد ،هذا إن أجادت الأحزاب اختيار من تراه في المواقع القيادية. أما إذا كانت تعمل على اهتبال الفرصة لتحسين مستوى كادرها على حساب مجتمع بأسره وتقدم من لا يفقه في الوظيفة الموكلة إليه شيئا ,فتلك مأساة أكبر يقع فيها الوطن حين يبقى مجرد مغنم لمن ينتصر على الآخر .وإذاً ما أحوجنا أن نتمهل ونتبصر ونخرج من دائرة التعصب الحزبي إلى حيث الرؤية الوطنية التي تعمل على استنهاض الهمم وتعتمد القدرات والكفاءات والنزاهة والإخلاص معياراً بدلاً من هذا منا وهذا ليس منا وتقريب (س) من الحزب على حساب (ص) من غير الحزب لتكون النتيجة خسارة وطن وتكتل أعمى وتعصب سيء لا يعلم إلا الله إلى أين يؤدي مادام يقوم على الرؤية الضيقة وعلى التعصب الذي لا ينتج غير الشر .
هكذا نشير إلى الواقع ونحن نراه يتشكل مأساة وملهاة في نفس الوقت ويغدو الفساد قابلاً للانتشار بكثرة مادام والتعصب يحيي خامل جذوره ونجد من يستحقون المواقع الريادية باعتبارهم كفاءات لاوجود لهم مطلقا إلا فيما ندر لكون أحد ما منهم منضوي في الحزب الذي لاهم له سوى معالجة أوضاع منتسبيه على حساب تخطيط ومنهجية وإنجاز ونجاح .
ولعل القارئ اليوم للخارطة الوطنية وما تعيشه البلاد من تجاذبات ورهانات على الفوز ضد الآخر وتحقيق مكاسب بحسابات خاطئة يدرك أن التذاكي على آخرين لا يمكنه أن يقدمنا خطوة للأمام إن لم يكن خيانة لشهداء ولتضحيات وطن .علينا إذاً أن نعي جيداً مأساة المحاصصة ،وأن تقاسم الغنيمة يعني ذبح البلاد ونحن لم نصل بعد في تكويننا الاجتماعي أو النسيج الوطني إلى مفارقات وفروقات بعيدة تفرض نمطاً من هكذا تفكير, سيما وليس فينا ولا بيننا ملل ونحل أخرى ولا قوميات متعددة ولا أديان ومشارب واتجاهات وأعراق أخرى, فالجميع لديهم ما يجمعهم أكثر بكثير مما يفرقهم فقط نحتاج إلى البصيرة والتبصر والنأي بالوطن من أن يكون غنيمة ونهب وأطماع ومعالجة قضايا أفراد ومحاصصة تدمر إمكانيات وترهق البلاد والعباد ،و مالم تقف القوى الوطنية بروح المسؤولية والالتزام الأخلاقي في رفض أي توجه يسعى للمحاصصة أو يفتعلها ويشكل قوة ضغط لمعالجة منتسبيه .فإن –متوالياً- الهزيمة ستكون ماحقة ومدمرة وسنجد الوطن في مآزق حقيقية صنعتها فكرة محاصصة غبية وأنتجتها أحزاب لتقع في ذات السلبي الذي اشتغل عليه النظام السابق بعصبويته و أُسريته، ولا نجد فرقاً بين ذاك وهذا وإن اختلفت التسميات .هكذا نحن اليوم نشير إلى مكامن وجع حقيقة وقابلة لأن توئد ثورة وتقضي على تغيير ما بقى التفكير الحزبي ضيقاً يتعامل من منظور المصالح الذاتية البحتة ،حتى وإن كانت حزبية. فالذاتية قد تنوجد في فرد أو حزب أو أسرة أو طائفة وجميعها تؤدي إلى تمترس وإقصاء وقضاء على التنوع في إطار الوحدة واشتغال ضد الإبداع وضد إتاحة الفرص ومغايرة حقيقية لدفع الله الناس بعضهم ببعض التي بها تستقيم الحياة وتتنوع وتنأى عن النمطية والقولبة والجاهزية والتعصب المقيت .وإذاً نحن نشير إلى هذا ونأمل أن تستيقظ القوى الوطنية من سباتها, سيما التي في الأحزاب ونعول عليها كثيراً في وضع حد لمكر المحاصصة التي غدت إيقاعاً قادماً مخيفاً نجده في حوارات لا تستقيم مع المطلوب وطنياً ولكنها رغبة التجاذبات والبحث عن مكاسب على حساب شعب وتاريخ وثورة ووطن ومستقبل.
محمد اللوزي
عدوى المحاصصة والتقاسم 1546