إن الحوار مشروع حياة تقتضيه ضرورات الحياة، فلا أحد يستطيع أن يعيش بمفرده مستغنياً بنفسه عن غيره، ولا أحد بمقدوره أن يحقق مصالحه غير آبه بمصالح غيره، ولا أحد باستطاعة أن يفرض إرادته على جميع الإرادات لأنه بشر محتاج لغيره ومصالحه تتعلق بمصلحة غيره وإرادته لا تنفذ إلا بمساعدة من غيره، فهو لا يعيش بمفرده الرجل يحتاج إلى المرأة والمرأة تحتاج إلى الرجل لتشكيل أسرة، وهكذا في بقية الجوانب الاحتياج ضرورة والتعايش ضرورة؛ لكل ذلك كان الحوار وسيبقى مهما في كل مراحل الحياة وعلى جميع مستوياتها.
إن الحوار والتشاور يبتدئ من حوار الأبوين وتشاورهما في فطام صبي، قال الله تعالى: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} (233) سورة البقرة. قال ابن عاشور في التحرير والتنوير: عطف التشاور على التراضي تعليما للزوجين شئون تدبير العائلة فإن التشاور يظهر الصواب ويحصل به التراضي. قال البيضاوي في تفسير هذه الآية: {فإن أرادا} يعني الوالدين {فصالا} فطاما قبل الحولين {عن تراض منهما} أي اتفاق من الوالدين {وتشاور} أي يشاورون أهل العلم به حتى يخبروا أن الفطام في ذلك الوقت لا يضر بالولد، والمشاورة استخراج الرأي {فلا جناح عليهما} أي لا حرج عليهما في الفطام قبل الحولين. قال ابن كثير: فإن اتفق والدا الطفل على فطامه قبل الحولين ورأيا في ذلك مصلحة له وتشاورا في ذلك وأجمعا عليه فلا جناح عليهما في ذلك؛ فيؤخذ منه أن انفراد أحدهما بذلك دون الأخر لا يكفي ولا يجوز لواحد منهما أن يستبد بذلك من غير مشاورة الآخر، وهذا فيه احتياط للطفل وإلزام للنظر في أمره، وهو من رحمة الله بعباده حيث حجر على الوالدين في تربية طفلهما وأرشدهما إلى ما يصلحهما ويصلحه.
وهكذا يعمل الحوار والتشاور عمله الإيجابي بين الوالدين لمصلحة الولد، ويعقد الأبوان جلسة حوار وتشاور في مسألة فطام صبي، فكيف لا يكون الحوار مشروعاً لمصلحة أمة ولتحقيق مصالح وطن، ولمعالجة مشكلات شعب بأسره، وهكذا يرسي الإسلام مبدأ الحوار ويدعمه بين رجل وامرأة في شأن صبي لم يبلغ السنتين.
ويستمر الحوار يقوم بدور في حل مشكلات الأسرة، فحين يكون هنالك خلاف داخل أسرة مسلمة تتجه الحلول في صور كثيرة أحدها هذه الصورة المهمة، قال الله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاَحًا يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا} (35) سورة النساء. وهكذا يتناول الحوار القضايا داخل الحياة الاجتماعية من الأسرة الواحدة في شأن فطام صبي، إلى الأسرتين في شأن زواج رجل من امرأة، واستمرار الحياة الأسرية بينهما، ومن هنا ندرك حجم المسؤولية في دعم الحوار الذي يناط به حياة الشعب اليمني وتجاوز مشكلاته، وينظر إليه على أنه مخرج اليمنيين من مأزق البلايا التي خلفتها التراكمات والأخطاء والخطايا طوال فترات طويلة, إن دعم الحوار الوطني فريضة وضرورة من كل القوى الحزبية والمستقلين، والجانب الحكومي والأهلي، وكل الجهود المخلصة المحبة لليمن مدعوة أن تقوم بواجبها لأجل اليمن دعما للحوار الوطني الشامل.
ويستمر الحوار والتشاور يعمل دوره في حياة الأمة, فلا يكتفي أحد برأيه مهما بلغ من العلم والحكمة؛ فحين يصطاد أحدهم في الحرم يوجب عليه الفدية، ولكن الفدية لا تتم برأي واحد مهما كان شأنه لا بد من حكمين عدلين في دم أرنب أو غزال أو غيره صيد في الحرم، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} (95) سورة المائدة. فكيف لا يكون الحوار مشروعاً ومهماً وهو يحقن دماء أمة، ويرعى شؤون بلد بأكمله. وهكذا تسير الأمة في ضوء من هدي ربها ونور شريعتها التي تمنع الاستبداد في حكم دم أرنب أو غزال، يجعل الحكم للأمة ويجعل التحكيم فريضة شرعية، يتحاور الحكمان ويتشاوران ويفضي التشاور والتحاور إلى حكم منهما، وهذا يدل على دور الحوار في فاعلية الأمة وحيوتها.
ولا يقف أمر الحوار عند هذه القضايا بل يمتد إلى كل شؤون الحياة في آية محكمة جامعة لكل القضايا كبرت أو صغرت، حيث يقول الله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} (38) سورة الشورى. لتشمل كل أمر، ولتتضمن كل شيء، وهكذا تختار الأمة طريق التحاور والتشاور لقضاء مصالحها وتجنب المخاطر المحدقة بها وتجتلب ما تراه نافعا، وتدفع ما تحسبه ضارا، وهكذا تكون للأمة فاعليتها في تصحيح المسار وإصلاح الأوضاع وتقويم الاعوجاج، فلا بد من تحاور يبني اليمن وهو أمر جليل يجب العمل بجد من كافة الأطراف لأجل ترسيخه وإنجازه.
في حياتنا البشرية المتشعبة في ميادين الاحتياج والتنوع، والممتدة في شعاب الزمان والمكان، والمتقلبة في أوضاعها والمتفاوتة في قوتها وضعفها يأتي الحوار ليقرب بين الأطراف ويوائم بين الرؤى والمفاهيم، ويرسم خطا لسير الحياة في تعايش مشترك يبني على القواسم المشتركة ويوسع مجالات الالتقاء، ومن هنا نجد الإنسان يتحاور حتى مع ذاته ويتحاور مع أسرته ويتحاور مع أصدقائه, بل ومع خصومه وأعدائه، فالحوار مهم في كل مراحل الحياة وجميع مستوياتها.
وفي إطار الدول وحل المشكلات يتحاور الحكام العقلاء لإيجاد حلول للمعالجات النوازل واتخاذ الموقف الصواب تجاهها، قال الله تعالى عن بلقيس: {قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ} (32) سورة النمل. وهكذا استطاعت بلقيس بحكمتها وحنكتها وقدرتها القيادية متخذة نهج "افتوني في أمري" أن تقود قومها إلى الجنة من خلال الدخول في الإسلام إسلامها هي وقومها "قبل أن يأتوني مسلمين" في حين قاد فرعون لعنه الله قومه إلى النار، من خلال نهج "ما أريكم إلا ما أرى" {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} (37) سورة ق.
يضاف إلى ذلك أن الدول تتجه صوب التحاور والتشاور في التصدي للكوارث، حتى لو كانت معتمدة في معرفتها على تفسير رؤيا، فالقرآن الكريم يحدد الوطنية في الحفاظ على مصلحة الشعب، ويبين أن الوطنيين الحقيقيين هم من يتصدون لأية مصيبة قد تنزل بأمتهم، فقد ظهرت الوطنية في القرآن الكريم على حقيقتها في قصة الملك ويوسف عليه السلام في سورة يوسف، حين اتخذ التدابير اللازمة لإنقاذ مصر من كارثة الجوع، وسلم الدولة لرجل ليس من قومه ولا على دينه، {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ} (54) سورة يوسف. وهكذا نجت مصر من كارثة الجوع والعوز، وتمكنت من لعب دور إقليمي حين جاءتها الشعوب تطلب القمح من مصر كما حدث من أخوة يوسف، قال الله تعالى عنهم: {فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيْهِ قَالُواْ يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ علينا إِنَّ اللّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ} (88) سورة يوسف.
وفي حياة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ابتدأت نبوته بالحوار مع جبريل في غار حراء، وامتدت بعد ذلك في دعوته وتربيته في سياسة الدولة قال الله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (64) سورة آل عمران. وتعليم المجتمع وإرساء معالم الحكم الرشيد وبناء الدولة العادلة، حتى قال الله تعالى له: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} (159) سورة آل عمران ونزل رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم- على رأي الأغلبية في يوم أحد، معلماً لأمته احترام الشورى ومبيناً لها كيف تدار الدولة على منهج النبوة.
د. محمد عبدالله الحاوري
الحوار مشروع حياة تقتضيه ضروريات الحياة 1920