أيام قليلة بكل تأكيد ليست كافية لأن نطلق العنان لتفاؤلنا أو نلوذ خلف احباطنا وتشاؤمنا، ومع اننا لسه في الايام الاولى فهذا لا يعني ان جلسات المؤتمر القليلة لم يكن فيها ما يستجلى من ملمح لوجه الدولة اليمنية القادمة ومن مؤشر ودلالة لطبيعة الوجهة المنشودة من هؤلاء المؤتمرين اليوم..
فأغلب المجتمعين, إن لم أقل معظمهم, متفقون حول مسألة الدولة التي مازالت غائبة ومفقودة وعلى هذا الاساس لم تعد المطالبة بالدولة شعاراً او ترفاً لفصيل او فئة؛ بل تكاد مسألة الدولة ضرورة وحتمية، فجل الكلمات التي سمعتها خلال الايام الماضية تكاد واحدة, إذ لم تكن مجمعة حول الدولة المدنية التي يجب ان تقام وتسود سيادة وسلطة وشعب وجغرافية ومؤسسات وقانون ونظام وادارة وعدالة وقوة وثروة ومواطنة ووو الخ.
نعم قد يكون مفهوم الدولة المدنية محل اختلاف وخلاف فيما يتعلق بالتفاصيل والمضامين؛ لكنها مع ذلك لا تنفي حقيقة الاتفاق الجمعي المبدئي حول حضور الدولة, باعتبار غيابها وفقدانها كان سبباً رئيساً ومباشراً في كل ما لحق باليمن واليمنيين من صراعات، وازمات، وحروب وتناحرات، ومشكلات مازالت ماثلة حتى اللحظة، فلو أن هنالك وجوداً للدولة المدنية الديمقراطية؛ لما وصل حال البلاد والعباد الى هذا المنحدر الخطر والسحيق، وحدة، واقتصاداً، وتنمية، ومجتمعاً، وصحة، وتعليماً، وقوة، وسيادة، ومعيشة، وكرامة.
وإذا كانت الدولة تعد الحاضر الابرز في مجمل الكلام؛ فإن شكل هذه الدولة أخذ الحيز الاكبر في احاديث المؤتمرين، فمما لا شك فيه هو ان دولة الامارة والسلطنة والقبيلة والطائفة والجهة, وفق وصف المفكر السياسي قادري احمد حيدر, كانت من سوءاتها وتجلياتها هذه الصورة المختلة والضعيفة للدولة, حيث يمكن فيها رؤية سلطة الدولة ومشروعيتها وحوارها في جهة والقوة وترسانتها وسطوتها في مكان آخر مغاير ومقوض لسلطان الدولة ولفكرة مشروعيتها ووجودها.
ولأن الواقع لا يشي بوجود دولة حقيقية من أي نوع؛ فلقد كانت الافكار المطروحة في الاغلب رأيناها منقسمة ما بين استعادة دولة الجنوب وتقرير مصير مجتمعها التواق لدولته السابقة التي ورثها عن المستعمر البريطاني وانفرط عقدها مرتين؛ المرة الاولى حين آلت هذه الدولة الى يد المناطق المتصارعة على السلطة, فكانت الحصيلة دولة الجهة.. أما المرة الاخرى فعندما توحدت هذه الدولة مع نظام عصبوي فاسد لا وجود فيه لمقومات واسس ومؤسسات دولة من أي نوع؛ فكانت النهاية مأساوية وتراجيدية, ما فتأت تلقي بظلالها على جميع الجنوبيين سواء الباحثين عن معالجة عادلة لقضيتهم ومن خلال الحوار أو المقاطعين القانطين بالحوار ومخرجاته والمنافحين للاستقلال وتقرير المصير.
وبين بقاء اليمن موحداً، ولكن في سياق دولة اتحادية لا مركزية تقوم على اساس الفيدرالية، هذه الفيدرالية، وبرغم تحفظ البعض حول كيفيتها؛ إلا أنها في المحصلة مثلت هدفاً تمحورت حوله اغلب الافكار التي سمعناها من الاحزاب او الشباب او المنظمات او المرأة او القوى الجنوبية او غيرها من المكونات، فباستثناء نفر قليل من الممانعين والمتحفظين على فكرة الدولة المركبة؛ كانت معظم المطالبة قد انحصرت ما بين فيدرالية جنوبية شمالية تراعى فيه فروقات مجتمعية وثقافية واقتصادية وبرجماتية أغفلها التوحد الارتجالي العاطفي.. وبين فيدرالية جامعة لديموغرافية اليمن في كيان اتحادي جديد يقوم على متلازمة الاقاليم المتعددة المصاغة خريطتها بطريقة مبتكرة مقوضة لحدود الانكليز والاتراك, كما ويكون مجتمع هذه الاقاليم ومصالحه ضمانة كافية من شأنها طمأنة الكثير من اليمنيين المتوجسين والوجلين من ان تفضي الفدرلة الى بروز الشطرية والمحلية وغيرها من المسميات الضيقة الممزقة لكيان الدولة الهشة والضعيفة والغير قادرة على اقامة دولة من هذا القبيل وفي الوقت الذي لا تستطيع فيه بسط نفوذها ونظامها في عاصمة الدولة وعلى المتحاورين انفسهم.
أياً يكن الامر، وأياً تكن تلكم الهواجس والمخاوف، وأياً كانت القضايا الموضوعة على مائدة الحوار، فالمهم من وجهة نظري لسه في طور التشكل والتخلق الجنيني، ومع كونه في طور التكون الاولي الذي يستعصى التنبؤ بمخاضه قبل معرفة ما ستحمله الاشهر القابلة من اعراض مصاحبة لمرحلة التشكل الجنيني ايجاباً او سلباً؟..
ومع يقيني بان القوى القبلية والدينية والعسكرية المجهضة لثورة سبتمبر وجمهوريتها، وللتوحد؛ لن تقف ساكنة إزاء عملية تخلُّق للدولة الاتحادية الديمقراطية.. اعتقد ان غالبية الافكار التي سمعتها طموحة وجريئة وخارقة لعقم وجمود الافكار المتزمتة والبالية التي يحسب لها هذا التخلف المريع تنموياً ومعيشياً ومجتمعياً وسياسياً وخدمياً، كما وبسبب ممانعتها ورفضها لكل الافكار الحداثية المطالبة بدولة العدالة والشراكة والمواطنة الحقة؛ كنا قد وصلنا الى هذه الوضعية المشاهدة.
نعم؛ فبعيد ما رأيته من ترجيح لكفة الافكار والرؤى الحديثة الناشدة للدولة الاتحادية الديمقراطية؛ تساءلت جزعاً: ماذا بوسع القوى التقليدية المناهضة لفكرة المواطنة المتساوية وللدولة الديمقراطية الاتحادية, فعله, لإجهاض ولادة هذه الدولة المأمولة؟.. سؤال مهم واظن الايام القادمة كفيلة بالإجابة عنه، فإما ان تثبت قوى الحداثة وجودها, فتنجح بحوارها صياغة الدولة المنشودة الجامعة لكل اليمنيين؛ وإما ان تتخلى هذه القوى الحداثية عن فرصتها المتاحة والممكنة, فيكون اخفاقها هنا عودة للقوى القبلية والدينية والعسكرية والجهوية.
محمد علي محسن
الحوار والدولة وقوى الحداثة!! 1970