نظراً لما تشهده الساحة السياسية من تجاذبات ومشادات فكرية، بين طرفين، طرف ينادي بضرورة فصل الدين عن هيكل الأنظمة السياسية المتمثل في العلمانيين والليبراليين ومن تأثر بهم من المسلمين، باعتبار أن الدين هو سبب التخلف الذي تعيشه بلدان ودول الشرق الأوسط، وطرف يقول بصعوبة فصل الدين عن الدولة, لأنه من يشرع لها ويسير أمور حكمها، وهذا الطرف متمثل في الإسلاميين المعتدلين والمتشددين.
وتلك المشادات الفكرية تجد في بلاد العرب والمسلمين حظاً أوفر ومرتعاً واسعاً, خصوصاً هذه الأيام, وذلك لتركيز العلمانيين حملتهم هناك وصب جل اهتمامهم في إزاحة الدين الإسلامي عن منصة الحكم وحصره في الأبنية الدينية كالمساجد ودور التعليم الديني وغيرها..
وتنطلق فكرة العلمانيين من ادعائهم أن الدين كان وراء التخلف الذي عاشته دول أوروبا خلال القرن الوسطى بسبب السيطرة المفرطة من قبل الكنيسة، والذي كانت تمثل السلطة الروحية الحاكمة وتسببت في تأخر الأوروبيين عن التقدم العلمي والتقني, في ذات الوقت الذي كانت فيه دولة الإسلام في أوج قوتها وحضارتها وكانت أكثر تطلعاً للعلوم والفنون، ولكن ذلك الوضع الذي عاشته دول أوروبا خلف ثورات وانتفاضات عارمة نادت بضرورة إسقاط الكنيسة وإبعادها عن الحياة السياسية، فحصلت النهضة الأوروبية في أواخر القرن السابع عشر.
ويرغب العلمانيون في نقل تلك التجربة إلى بلدان الشرق الأوسط - الإسلامية خصوصاًـ التي تعاني من التخلف الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، بدعوى أن المشكلة الأساسية هي تدخل الدين في السياسة أو الدولة وتبرير ذلك التخلف في الدين الإسلامي قياساً على ما كان يحدث إبان الحكم الكنسي.. ولكن، للطرف الآخرـ الإسلاميينـ نظرة أخرى، هي أن واقع الأوروبيين مختلف تماماً عن واقع العرب، ويمثل عنصر الاختلاف في أن التخلف الذي عاشته أوروبا ناتج عن تسلط رجال الدين المفرط في الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية المستند إلى قوانين باطلة تصدر من شرائع سماوية محرفة، فأصبحت تهضم الحقوق وتدعم القوي على حساب الضعيف وتعزز مبدأ الإمبريالية، وأنه لو لم تحرف تلك الشرائع ما كان ذلك التسلط وما تذمر الناس من الحكم الديني..
ويبرر الإسلاميون مبدأ فصل الدين عن الدولة في بلدان أوروبا وما جاورها هو أن تلك الدول قامت على أنقاض أديان محرفة لم تكن مقبولة في شكلها وهيئتها، فنشأت دولة بلا دين وحلت محل الشرائع السماوية قوانين بشرية وضعية تجانب الدين وترفضه وتبعاً للأهواء البشرية البحتة, وذلك بعكس واقع العرب الذين لم تكن لهم أي دولة قبل الإسلام، بل كانوا رعاة وتجار تحكمهم قوانين بشرية قاسية وظالمة, وبعد مجيء الإسلام ودخول العرب فيه نشأت دساتير وقوانين تنظم شئون حياتهم وتحمي حقوقهم, وتتمثل في وثيقة المدينة التي شرعت الحقوق والواجبات لكل قوم وكل أمة وحددت شكل العلاقة بين المسلمين واليهود، فكانت الوثيقة أول دستور للدولة الإسلامية، وقد حوت أحكاماً كثيرة توضح علاقة الناس بالدولة وما عليها من واجبات إزاءهم وما للناس من حقوق على دولتهم والعكس بما يحفظ المصلحة العامة ويحققها، وكذلك علاقة الدولة بغيرها من الدول في حالة السلم والحرب، وتلك تتمثل في الأحكام المدنية التي وضعها الإسلام ودافع عنها وسن العقوبة لمخالفيها، كما أنها تضمنت أحكام تنظم علاقة الناس فيما بينهم كأحكام الأحوال الشخصية ( الزواج، الطلاق، والإرث.. وغيرها )، وأحكام المعاملات المالية والتجارية، وكذلك أحكام حل النزاعات والتقاضي بين الناس، كما أنه لم يشرع للمسلمين فقط, بل شرع أحكاماً تنظم علاقة المسلمين مع غير المسلمين كاليهود والنصارى وإيضاح واجبات كل أمة تجاه الدولة, كما أنها شرعت أحكاماً تنظم علاقة الحاكم بالمحكوم على أساس أن الحاكم واحد من الرعية له مالهم وعليه ما عليهم يسعى لتحقيق صالح الأمة وفق الشروط المحددة والموضحة في الشريعة فإن تجاوزها وخالفها جاز للرعية أن يخلعوه.. ولذلك فالحاكم يحكم بشرع الله وأمره ولا يجوز له مخالفته، والكثير الكثير من الأحكام التي شكلت هيكل الدولة الإسلامية.. فكان الإسلام سبباً في نشوء دولة العرب, حيث لم يترك سوى أسلوب اختيار الحاكم وتحديد شكل نظام الحكم، وجعلهما مجالاً حراً للجهد والعبقرية الإنسانية، وبذلك تكون دولة الإسلام الدولة الأولى التي تحفظ الحقوق والحريات وتدافع عنها لكل مواطنيها عرباً وعجماً سواء كانوا مسلمين أم غير مسلمين, فهي تحفظ حرية الأقليات وحقوقهم وتحرم الاعتداء عليها تحت أي مسمى، وتعمل بمبدأ المساواة بين بني البشر, حيث لا فضل بينهم أمام الدولة أو الحاكم على أساس مادي, فكلهم سواسية في الحقوق والواجبات، ولكنهم يوم القيامة يتفاضلون بالتقوى أمام الله تعالى.
وهذا يكون تبرير الإسلاميين لضرورة ارتباط الدين بالدولة الذي هو المشرع الوحيد لها والمنظم لعلاقة مواطنيها بعضهم ببعض، ومن هنا تكون نظرة الإسلاميين بأنه لا انفصام بين الدين والسياسة أو الدولة, حيث لم تكن للدولة أن تولد في بلاد العرب إلا بفضل الدين، إذ يصعب فصل الدين عن الدولة لأنه بمثابة الروح للجسد، وأن ما أصاب المسلمين من ذل وتخلف هو بسبب بعدهم عن دينهم وعدم تطبيق أحكامه، فالدين بمثابة القانون والمسلمين حالهم كحال الذي لا يحترم هذا القانون..
وفي المقابل، يرى الإسلاميون أنه لا يمكن للعلمانيين والليبراليين أن يطالبوا بفصل الدين عن الدولة المسلمة، ولا أن يدعوا أن سبب التخلف الحاصل في دول الشرق الأوسط هو من الدين، لأن واقع بلدانهم مختلف وفرص وأسباب تطبيق تجربتهم- في الدول الإسلاميةـ ضئيلة وغير مقنعة.
أخيراً، ستحظى هذه النزاعات الفكرية بنصيب أكبر من الاهتمام ومزيد من الوقت حتى يثبت كل طرف صدق ما يدعيه، والقول الفصل هو بالرجوع إلى مبادئ الشريعة الإسلامية العادلة والتي إلى اللحظة لم ترق إلى مستواها الأنظمة الأوروبية حضارياً.. وقد حاولت في هذا لملمة الأفكار وسرد الآراء وإن لم يكن المقام كافياً للتوسع لتشعب الموضوع وتعدد زواياه، فإن أخطأت فمن نفسي والشيطان وإن أصبت فتوفيق الله كان حاضراً.
almgharem@yahoo.com
عبدالله المغارم
لماذا فصل الدين عن الدولة 1522