بدأت مطلع هذا الأسبوع جلسات «مؤتمر الحوار الوطني» في صنعاء.
أول ما يجب قوله إن انعقاد المؤتمر حدث بذاته يشكل خطوة كبرى في المرحلة الانتقالية المفترض أن تعبر باليمن إلى صياغة نظام سياسي جديد. فقد كان مقرراً أن يبدأ جلساته قبل نهاية العام المنصرم، وجرى تأجيله مرات عدة لحاجة اللجنة التحضيرية إلى المزيد من الوقت لإنجاز النظام الداخلي وصياغة الأوراق لفرق العمل التسع التي سوف تبتّ في مسائل الحراك الجنوبي ووضع محافظة صعدة وإعادة هيكلة الجيش والعدالة الانتقالية والحوكمة.
العنوانان الأخيران من المصطلحات الدارجة في الأمم المتحدة التي أشرفت وكالاتها على التحضير للمؤتمر. ومعلوم أنه سوف يصعب تنفيذ أي بند من بنود العدالة الانتقالية تلك ما دامت «المبادرة الخليجية» التي ينعقد المؤتمر بما هو بند من بنودها التنفيذية قد أعفت الرئيس المخلوع علي عبدالله صالح و«معاونيه» من أي مسئولية مالية وجرمية عن سنوات حكمه الثلاثة والثلاثين.
•••
مهما يكن، يضم المؤتمر ٥٦٥ مندوباً يفترض بهم تمثيل كل أطياف المجتمع اليمنى وتياراته السياسية وفئاته الاجتماعية ومناطقه المختلفة. سوف تبث مداولات المؤتمر عبر الإذاعة والتلفزة، وقد عين له ستة أشهر لإنجاز أعماله. للوهلة الأولى يبدو أن اتساع عدد اليمنيين الذين سوف يشاركون في تقرير مصير بلدهم وطول المهلة المعطاة لإنجاز مهمتهم ظاهرة سليمة بذاتها. إذ تبدو هذه الصيغة أقرب إلى فكرة المؤتمرات التأسيسية التي طالبت بها ائتلافات الشباب الثائر في تونس ومصر واليمن ذاتها، قياساً إلى الطرائق الانتقالية التي اعتمدت في تونس ومصر وليبيا. إلى ذلك تقرر أن تضم كل كتلة سياسية ممثلة في المؤتمر ٣٠ بالمائة من النساء ,إضافة إلى حصص خاصة لتمثيل الشباب والنساء والمستقلين.
ولكن يبدو المشهد أقل إيجابية عند التدقيق في طرائق التمثيل والمشاركة.
جرياً على «تطمين» الرئيس صالح جرى تخصيص حزبه، حزب «المؤتمر الشعبي»، بأكبر نسبة من الممثلين في المؤتمر. ومن جهته تولى رئيس الجمهورية الانتقالي، وهو نائب رئيس حزب المؤتمر، تعيين ممثلي الشباب والنساء والمستقلين ما أثار استياء الكثرة من هذه القطاعات في مقدمهم محمد سالم باسندوه، رئيس الوزراء، الذى أعلن مقاطعة جلسات المؤتمر احتجاجاً على الانحياز في اختيار ممثلي تلك الفئات الثلاث. وقد شاركت أحزاب «اللقاء المشترك»، وهى تكتل المعارضة الأساسي رئيس الوزراء الاحتجاج دون أن تصل إلى حد مقاطعة الجلسات.
إلى ذلك قاطع الشيخ حميد الأحمر، رجل الأعمال البالغ النفوذ والثراء وأحد مشايخ قبيلة حاشد والقيادي في حزب «التجمع اليمنى للإصلاح»، جلسات المؤتمر اعتراضا على اقتصار تمثيل محافظة صعدة على مندوبين عن «الحركة الحوثية» دون سواهم من سكان المحافظة. ومن مفارقات الأمر الحزينة أنه تقرّر بدء جلسات مؤتمر الحوار يوم ١٨ آذار/مارس تخليدا لذكرى مجزرة «جمعة الكرامة» التي نفّذها قناصة علي عبدالله صالح بالمعتصمين في «ساحة التغيير» بصنعاء أسفرت عن مقتل خمسين شاباً ومئات الجرحى، في الوقت الذى يجرى فيه تقليص تمثيل شباب الثورة في المؤتمر وتعظيم تمثيل ممثلي نظام علي عبدالله صالح الذى قامت الثورة لتغييره. فلا عجب أن تقرر معظم كتل الشباب الثائر مقاطعة أعمال المؤتمر ولسان حالها: كيف يمكن أن يجلس على طاولة واحدة ممثلو الثورة ومن أطلق النار عليهم؟ ومهما يكن، فالمقاطعة الشبابية إعلان عن الاحتجاج على سياسة الإبعاد والتهميش المنتظمة التي تمارسها السلطات اليمنية على الشباب الثوري والعمل على إخراجهم من الساحات ولو بالقوة والعنف، وتهميشهم في مؤسسات المرحلة الانتقالية كافة. على أن القوى الشبابية لن تستسلم لمحاولات تهميشها، بل قررت عقد سلسلة من النشاطات للضغط على المؤتمر من خارجه لعدة أهداف تبدأ مع إخراج أجهزة الأمن من الجامعات ولا تنتهى مع الدعوة لمحاكمة علي عبدالله صالح، واستعادة الأموال المنهوبة، واستكمال عزل ابنائه وأقاربه من قيادة الوحدات العسكرية والأمنية ومن المراكز الحساسة في الدولة.
على أن الغائب الاكبر عن مؤتمر الحوار وعن الحوار هو طبعا الكتل الرئيسة في «الحراك الجنوبي» الذى أطلق الشرارة الأولى للثورة اليمنية. فقد التقى دعاة «فك الارتباط» بين الجنوب والشمال، المطالبون باستعادة دولة اليمن الجنوبي، التي كانت قائمة قبل الوحدة بين شطري اليمن، العام ١٩٩٠، مع دعاة الفيدرالية بين الجنوب والشمال على رفض المشاركة في المؤتمر على رغم كل المحاولات التي بذلها مندوبو الأمم المتحدة لإقناعهم بالمشاركة. ويطالب المكوّنان بـ«حوار ندّى» بين ممثلين عن شطري الوحدة اليمنية السابقين. وقد خرجت تظاهرة «مليونية» في مدينة عدن، يوم افتتاح أعمال المؤتمر بصنعاء، تطالب بالحوار الندّي، تحت شعار: «القرار قرارنا».
•••
هذه البداية المبتورة سوف تلقى بكامل ثقلها على أعمال مؤتمر الحوار الوطني اليمنى. على انها ليس هي وحدها ما يجب أن يشغل البال. تبقى المداولات التي سوف يَحسم نتائجَها مدى نجاح اليمن في العبور من نظام الاستبداد "المافيوي" إلى الديموقراطية المدنية في كيان جديد قادر على التخلّص من المركزية الاستبدادية وعلى الاعتراف بالحقوق المناطقية والجهوية لمكونات البلد الرئيسة، في إطار نظام فيدرالي يشمل اليمن كله، ولا يستثنى حق أهالي المحافظات الجنوبية في تقرير مصير علاقتهم بسائر أجزاء اليمن من خلال استفتاء شعبي مراقب -عربياً ودولياً-.
بناء على معايير كهذه يمكن متابعة أعمال مؤتمر الحوار الوطني اليمني والحكم على نتائجه.
سياسي وكاتب وأستاذ جامعي لبناني
جريدة السفير اللبنانية
فوّاز طرابلسي
الحوار الوطني اليمنى: البداية المبتورة 1616