إن الحوار هو انتصار الوطن، ونعني بانتصار الوطن أن الوطن أكبر من فرد مهما علا شأنه أو ظن في نفسه، وأعظم من أحداث مهما بلغت في حجمها وعنفوانها وشدتها، هذا الانتصار يوجب علينا التذكير بالحقائق الدينية والتاريخية الآتية:
الحقيقية الأولى: إن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا
إن العمل الجيد والحسن عمل مقدر شرعاً وعقلاً، وهو عمل فيه صلاح الدين وسلامة الدنيا، لقد مضت سنة الله تعالى في حياة الأمم أن العمل الصالح لا يضيع ولا ينساه الله تعالى، رأيناه في قصة يوسف برغم كل المؤامرات التي حيكت، انتصرت الحقيقة وتولى يوسف عزيزا على مصر، برغم كيد أخوته ورميه في البئر، برغم بيعه بثمن بخس دراهم معدودات، وبرغم مؤامرة المرأة وإغرائها، ووحشة السجن ظلماً بعد التبين من براءته، برغم ذلك كله تولى ملك مصر، ليقول لإخوته وهو يتولى منصب العزيز: {قَالُواْ أَإِنَّكَ لَأَنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} (90) سورة يوسف.
فالله تعالى هو الذي له المن والفضل، بفضل الله منته ونعمته نجا من غائلة البئر، وبفضل الله منته لم تصبه مؤامرة المرأة، وبفضل الله ومنته لم تنكسر إرادته في السجن ظلماً بعد تبين طهارته وعفته، وبفضل الله ومنته صبر ولم يخرج من السجن حتى أظهر الله تعالى براءته بسعي الملك واعتراف المرأة، وبفضل الله ومنته تولى منصب عزيز مصر، لا غالب لأمر الله تعالى، وفي قصة يوسف يقول الله تعالى: {وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} (21) سورة يوسف.. فانظر كيف جعل حكم التمكين مقترناً بابتلاء شرائه، لأن بيعه ظلم فهو باطل لا يعتد به، فتأمل كيف قرن التمكين بالبلاء، ثم تأمل خاتمة الآية: {وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} (21) سورة يوسف.
كثير من الناس لا يعلمون, فتغيب عنهم هذه الحقيقة أن الله غالب على أمره، ومن أمره أنه لا يضيع أجر من أحسن عملا، ومن أمره أن القاتل خاسر وأن المقتول منتصر، قال الله تعالى: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (30) سورة المائدة, وقال الله تعالى: {وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا} (33) سورة الإسراء.. وحين تغيب هذه الحقيقية عن الذهن يتصور من يمتلك السلاح أن يمتلك القرار، فيقتل فيخسر الدنيا والآخرة، لم يكن القتل بغير الحق طريقاً للتمكين أبداً، ولن يكون، لأن الله حكم عليه بالخسران كما ذكرنا في الآية السابقة، والندم كما في قوله تعالى: {فَبَعَثَ اللّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ} (31) سورة المائدة. القاتل أعجز من غراب، يفقد إنسانيته وأهليته، فيتصرف تصرفاً أخرق، وأحمق، و{وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاء} (27) سورة إبراهيم.
حين تغيب هذه الحقيقة عن الأذهان ينبهر الناس ببهرج السلطة فيزورون الحقيقة، وينتصرون للظالم، ويقفون صفاً قوياً ضد المظلوم، وهم يعلمون ظلمهم له، فيتهمونه بكل التهم ليشوهوا صورته ويزينوا صورة الظالم، قال الله في سورة يوسف: {ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ} (35) سورة يوسف. سجنوه لأجل المرأة وهم يعلمون ظلمهم له، فماذا كانت النتيجة الاعتراف أمام الملأ، قال الله تعالى: {قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} (51) سورة يوسف.
الحقيقة الثانية: إن الله لا يصلح عمل المفسدين
إن الذي يسيء يستوحش، فاعل السيئة مهموم لأنه في سجن سيئته، لا يتصورن أحد أن السيئة سعادة، الذي يقتل ظلماً يخسر ملكة الملوك عبر التاريخ تبحث عن الخلود، فغابت أشخاصهم وتاريخهم وأسرهم، وبقي العادلون مذكورين لا يذكر غيرهم، آلاف حاولوا الخلود والزعامة والمجد بالظلم والقتل، فهلكوا وأهلكوا أسرهم، ضاعوا وأضاعوا، وبقي العادلون عطراً على مدى الزمان, يذكر عمر رضي الله عنه فيذكر معه العدل، ويذكر علي كرم الله وجهه فيذكر معه استقلال القضاء والحكم بالسوية بين الناس، ويذكر عمر بن عبد العزيز فيذكر بالعدل وتجديد معالم الدين، ويلعن الظالمون في الحاضر كما يلعنون في الماضي، لأن الظلم فساد والله لا يحب الفساد، وعدوان والله لا يحب المعتدين, واستكبار في الأرض بغير الحق والله لا يحب المستكبرين.
إن الله تعالى يرينا آياته في القرآن الكريم، بقصة قارون وهو رجل كان من قوم موسى فبغى عليهم، أعطاه الله تعالى نعمه فنسبها لنفسه ولذكائه ولفطنته وخبرته وعلمه، ونسي الله الذي وهب ونسي الله الذي أعطى ونسي الله الذي منَ عليه وأكرمه، ونسي من كان قبله ممن جمع المال فأكثر، نسي ذلك، ذكر بالله فأبى أن يتذكر, وعظ فرفض أن يتعظ، ذكر فلم يقبل، {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} (77) سورة القصص..
أن الله تعالى يرينا آياته في الكون والحياة مصداقاً لكلماته وآياته في القرآن الكريم، وهو ما يعطي السائرين في طرق الخير قوة إيمانية وهم يعلمون أن معهم قوة الله تعالى، وآياته تبين لهم أن الله لا يصلح عمل المفسدين، فعملهم إلى هلاك ومن يسأل التاريخ القريب والبعيد يجد تصديق ذلك فيزداد المؤمن إيماناً وثباتاً.
حتى من يقتص يقتص بالعدل وبالمثل فقط، قال الله تعالى: {وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} (40) سورة الشورى. وقال الله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ} (126) سورة النحل.
الحقيقة الثالثة: ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله
إن هذه الآية الكريمة تضعنا أمام حقيقة نراها في حياة الأمم والشعوب، فلم ينج فرعون بجنوده بل هلك وأهلكهم معه، ولم تستطع عاد أولو القوة والبأس التي لم يخلق الله مثلها في البلاد، وهكذا بقية الظلمة إلى يوم الناس هذا، خيب الله سعيهم وكان وبالاً عليهم، انظروا إلى هذا المشهد الرهيب من قصة نبي الله صالح عليه السلام، {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (48) قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (49) } النمل.. فهاهنا مشهد لمجموعة من المجرمين يأتمرون فيما بينهم، وتآمرهم قتل جماعي لنبي الله وأهله، وهاهم يحلفون الأيمان ويقسمون على ما تعاقدوا عليه من الفجور والقتل، ويرسمون خطة غدر محكمة في ليل، تنفذ بإحكام بحيث لا يتركون وراءهم خيطاً لفضح جريمتهم، فهي الجريمة الكاملة، هذا عندهم وفي تقديرهم، وهذا مكرهم، فماذا عند الله عز وجل، قال تعالى: {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} (50) سورة النمل.. وأين مكر المخلوق من مكر الخالق، هؤلاء المناكيد يقفون في وجه غضب الله عز وجل، وهذه هي أعظم حماقة يرتكبها الماكرون المغرورون، ونتيجتها هلاك محقق، ودمار أكيد، قال الله تعالى: {فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ } (51) سورة النمل.. إنه الدمار, فما أشد بؤسهم هؤلاء البؤساء النكدين، وهم يضعون أنفسهم في طريق الهلاك، بظلمهم, فالظلم زوال للدول، والظلم زوال للظالمين، قال الله تعالى: {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (52) سورة النمل.
إن الله تعالى هو خير الماكرين، فخير الماكرين هو الذي يملك النتيجة، ومآلات الأمور، ونهايات الأحداث، وتلك لا يملكها إلا الله تعالى، كل ماكر يمكر فيحسن في مكره ولكنه لا يملك النتيجة، ولا يعلم الغيب وليس بيده عاقبة الأمور, فعاقبة الأمور بيد الله تعالى وحده، {وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} (41) سورة الحـج. فهل من مستيقظ، هل من متنبه لنفسه، ومنبه لغيره؟.. لا تمكر فقد مكر من قبلك فأحسن مكره، وأجاد تدبيره، وكان مكراً كباراً، كما قال الله تعالى في قصة نوح, فماذا كانت العاقبة، هلاك فهل من مدكر، ويذكر الله تعالى مبلغ مكر الماكرين فيقول: {وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ } (46) سورة إبراهيم.
د. محمد عبدالله الحاوري
حقائق التاريخ تؤكد حقائق الدين 1836