على بعد أيّام من مؤتمر الحوار الوطني في اليمن، يبدو مفيداً اكثر من أي وقت الابتعاد عن الاوهام، في مقدّمة الأوهام الاعتقاد بأنّ المؤتمر الذي لا مفرّ منه سيأتي بمعجزة، ولّى أوان المعجزات، لكن لا شيء يحول دون التفاؤل بقدرة اليمنيين على النزول إلى ارض الواقع والاعتراف بأنّ المشاكل التي تواجه بلدهم تحتاج الى صيغة جديدة للحكم، يفترض في مثل هذه الصيغة أن تأخذ في الاعتبار أن اليمن الذي عرفناه لم يعد قائماً.
المهمّ أن يمهد مؤتمر الحوار الوطني ابتداء من يوم الثامن عشر من الشهر الجاري لقيام نظام جديد يقوم على التبادل السلمي للسلطة.. الأهمّ من ذلك، أن تكون هناك قيامة لليمن بعد المرحلة التي تنتهي بعد أحد عشر شهراً، اذ يخشى ان يغرق البلد في مستنقع التجاذبات الداخلية والإقليمية التي لم يعد معروفاً أين تبدأ ولا أين يمكن أن تنتهي.
المؤسف أن مستقبل اليمن، ذا الحضارة العريقة، مفتوح على المجهول بدل أن تكون هناك خطة واضحة، متفق في شأنها، تنقل البلد الفقير إلى مرحلة وصيغة حكم جديدتين تعالجان المشاكل الكثيرة التي تواجهه وتواجه شعبه المغلوب على أمره، هذا الشعب الذي عانى الأمرّين منذ ما قبل إعلان الجمهورية في العام 1962..
ما نشهده اليوم هو انكشاف للبلد في ظل عوامل جديدة بعضها خارجي والاخر داخلي، لم يعد التدخل الإيراني في شؤون اليمن سرّاً، ثمة من يعتقد أن أخطر ما في التدخل زيادة البقعة التي يسيطر عليها الحوثيون في الشمال وتمددهم في اتجاه صنعاء، يضاف إلى ذلك، تكديسهم السلاح في العاصمة وبلوغ نفوذهم المناطق الوسطى من اليمن وهي اكثر المناطق كثافة سكّانية، كما فيها أكبر مدن اليمن وهي تعز.. الغريب في الأمر أن الحوثيين، الذين تحوّلوا من الزيدية إلى الشيعة الاثني عشرية، وجدوا وسائل لاختراق المناطق الوسطى، بما فيها تعز، على الرغم من أنها مناطق شافعية في أكثرها!.
وهكذا، يبدو جلياً أن التدخل الايراني لم يعد محصوراً فيما كان يسمّى الشمال، بل إن الايرانيين، استطاعوا، عبر الحوثيين، ايجاد بعض النفوذ لهم في تعز والمنطقة المحيطة بها، كما أنهم يدعمون "الحراك الجنوبي" الذي يدعو إلى الانفصال والعودة إلى الوضع الذي كان قائماً قبل ايار- مايو 1990، حين تحققت الوحدة بين شطري اليمن.
ما يزيد الوضع سوءاً سعي الإخوان المسلمين إلى تعزيز مواقعهم في كل اليمن، معتمدين على تنظيمهم القديم من جهة وعلى التركيبة القبلية لليمن، وجدوا من يدعمهم من داخل التركيبة القبلية بعدما لعب الشيخ/ عبدالله بن حسين الأحمر، رحمه الله، دوراً في ايجاد الغطاء القبلي لحزب إسلامي كبير، يضمّ بين ما يضمّ الإخوان، هو "التجمع اليمني للإصلاح". وكان الشيخ/ عبدالله رجلاً استثنائياً بكلّ المقاييس بفضل ما كان يمتلكه من نفوذ داخل قبيلة حاشد، وكان شيخها، وعلى صعيد كل القبائل اليمنية، فضلاً عن العلاقة التي ربطته بالرئيس/ علي عبدالله صالح الذي حكم اليمن ثلاثة وثلاثين عاماً.
منذ ما قبل بدء المرحلة الانتقالية، حصل تغيير في العمق في اليمن، ما لا يمكن تجاهله حالياً هو أن هناك انقساماً في الشمال يستفيد منه الحوثيون إلى أبعد حدود وذلك في ضوء خروج علي عبدالله صالح من السلطة من جهة وانهيار المعادلة التي كنت قائمة سابقاً والتي كان اسمها معادلة "الشيخ والرئيس"، غاب الشيخ عبدالله بن حسين الاحمر عن الساحة اليمنية، فيما اضطر علي عبدالله صالح إلى الاستقالة بفعل ضغط شعبي وقبلي وحتى إقليمي ودولي.
اننا أمام يمن جديد، يمن موحد، اقلّه ظاهراً، لم يعد يحكم من صنعاء، في هذا اليمن مناطق تحت السيطرة الكاملة للحوثيين، كما فيه مناطق أخرى تحت سيطرة "القاعدة" وفيه شخصيات تدعو علناً إلى الانفصال.. هل الانفصال حلّ في اليمن، أم انه الطريق الأقصر لتشظي البلد؟ هل صدفة أن ايران تدعم الحوثيين في الشمال والانفصاليين في الجنوب؟.
لا علاج في المدى القصير للظاهرة الحوثية التي تشكل الخطر الأكبر على اليمن في المدى الطويل، إنها مسألة معقدة تحتاج الى خبراء في هذا الشأن، بل إلى عقلاء، يأخذون في الاعتبار ان هناك ظلماً تاريخياً لحق باهل صعدة والمحافظات القريبة منها، مثل عمران والجوف.. وحتى حجة، منذ قيام الجمهورية..
لا يمكن السعي إلى معالجة الظاهرة الحوثية، وهي خطيرة بكل المقاييس، في ظلّ استمرار المشاكل القائمة في الجنوب وسعي الإخوان المسلمين إلى إعداد نفسهم لتولي السلطة بعد انتهاء المرحلة الانتقالية، يسعون إلى ذلك، بغض النظر عما يفعله الحوثيون في مناطقهم، وحتى داخل صنعاء، وبغض النظر عمّا يدور في المحافظات الجنوبية والشرقية أو في حضرموت، حيث تعمل "القاعدة" على تعزيز وجودها مستفيدة من الجهل أوّلاً..
لا بدّ من إيجاد نقطة انطلاق في يمن ما بعد المرحلة الانتقالية، هناك رئيس اختار تفادي الدخول في مواجهات عقيمة، قبل هذا الرئيس التخلّي عن السلطة، لهذا الرئيس، الذي اسمه علي عبدالله صالح، حسنات وسيئات، لكنّ الطريقة التي خرج بها من السلطة وبقاءه في اليمن يدلان على ان لا احد يمكن أن يلغي احداً في اليمن، فالملفت قبل الزيارة الأخيرة التي قام بها الرئيس/ عبدربه هادي منصور لعدن، وخلال الزيارة وبعدها، استفاقت كل الحساسيات التي كانت قائمة في الجنوب قبل الوحدة، هذا واقع لا يعتبر شخص مثل الرئيس عبدربه مسؤولاً عنه في أيّ شكل، لو لم تكن هذه الحساسيات قائمة، لما انهارت "جمهورية اليمن الديموقراطية الشعبية" ولما تحققت الوحدة في العام 1990..
هذا يعني بكلّ بساطة أنه يمكن الانطلاق من الجنوب لمعالجة مشاكل اليمن ككل، اليمن يحتاج إلى صيغة حكم جديدة في أساسها اللامركزية وليس إلى انفصال من هنا وآخر من هناك، من يقول إن أهل عدن أقرب الى حضرموت مما هم عليه من أهل تعز؟.
باختصار شديد: مشكلة اليمن ليس في الوحدة، مشكلة اليمن في الحاجة إلى صيغة جديدة للحكم تسمح بالبحث فيما يمكن عمله في مرحلة ما بعد سقوط صيغة "الشيخ والرئيس".. لم يعد اليمن يحكم من صنعاء كما كانت عليه الحال في الماضي، صار اليمن ضائعاً، هذا ما استوعبه الإيرانيون قبل غيرهم ولذلك راهنوا باكراً على الحوثيين وعلى الانفصال...وعلى كلّ ما يمكن يؤجج التجاذبات والانقسامات، بما في ذلك نشاط الاخوان والسلفيين و"القاعدة"..
هل من مجال لحوار في اليمن، حوار يأخذ في الاعتبار أن المشكلة ليست في الوحدة بقدر ما أنها في الحاجة إلى البحث عن صيغة جديدة للبلد من منطلق ان اليمن الذي عرفناه في الماضي، كدولة مركزية تحكم من صنعاء، لم يعد قائماً؟.
خير الله خير الله
اليمن والحوار الوطني...والابتعاد عن الاوهام 1485