تجارب مرت بها الثورات الأولى والأحزاب الحاكمة في الوطن العربي عبر تاريخها السياسي تتعلق بطبيعة تجربتها مع قوى الانتفاع من أصحاب المصالح والوصوليين, وتأثير تلك القوى النفعية الناعمة في توجيه بوصلة المستقبل, ما إن ترى مؤشرات تجاه القوة والسلطة حتى توجه دفتها تجاه مصادر القوة الجديدة
فإن كان هدفها حزباً سياسياً مثلاً فإن زحفها يستمر داخل مفاصل الحزب وبمرور فترة زمنية وجيزة يتحول الحزب خلالها إلى كيان آخر بفعل تأثير تلك القوى الناعمة, بما يؤدي الأمر إلى سقوط مشروع الحزب، بعد أن كان حاملاً لمشروع الثورة يتحول إلى حاضنة لقوى الانتفاع, وتغدو مبادئ الثورة وأهدافها شعارات بلا مضمون..
الأحزاب السياسية التي حكمت في العالم العربي عقب ثورة أو بمشروعية أهداف ثورة انتهى بها المطاف إلى ضياع الرؤية والمشروع والتحول التدريجي نحو خدمة قوى الانتفاع وأصحاب المصالح, وينتهي الأمر بسيطرة قوى الانتفاع على الحزب وسنستعرض بعض النماذج على النحو الآتي:
الحزب الاشتراكي اليمني حين وصل إلى الحكم في جنوب اليمن سابقاً زحفت في مفاصله قوى انتهازية لم تكن تحمل مشروع الحزب ولا تتمسك بقيمه, لكن الحزب لم يدرك ذلك إلا بعد فوات الأوان, وربما راهن الحزب على إخضاعها لمشروعه, وراهنت هي على إخضاع الحزب، فكان الفشل حليفهما معاً, و بعد أن فشلت القوى الانتهازية في تغيير بوصلة الحزب الاشتراكي وتحويله إلى حاضن لمصالحها ومدافع عنها, كانت النتيجة احتدام الصراع بين مشروع الحزب من جهة وبين قوى الانتفاع والمصالح من جهة أخرى، تلك القوى التي باتت تسعى لفرض ما تريده مستخدمة مشروعية الحزب والدولة معاً, وأخذ الصراع أشكالاً متعددة وانتهى بكارثة دموية, وربما الحزب الاشتراكي هو الوحيد الذي لم يسقط في مواجهة قوى الانتفاع لكن الثمن كان فادحاً..
أما المؤتمر الشعبي العام والذي جاء كفكرة تحاكي تجربة الزعيم جمال عبد الناصر في تشكيل "الاتحاد الاشتراكي العربي" الذي كان حزب الدولة الوحيد ولديه ميثاق وطني وهو نفس الاسم لوثيقة المؤتمر الشعبي العام, والفارق بين الحزبين أن الرئيس السابق" صالح" كان يريد أن يحتوى الصراع السياسي بين مختلف القوى السياسية تحت مظلة المؤتمر بما يمكنه من السيطرة على اللعبة وفرض أجندتها على القوى السياسية بما يتيح له تصدير تلك الأجندة إلى حلبة الصراع وتصبح القوى السياسية مجبرة على التعاطي معها,وبمعنى آخر يختار لها نوع المعركة وأدواتها ومكانها, ويتحكم بمخرجاتها من خلال شبكة علاقات سياسية هامشية غير رسمية، أي من تحت الطاولة وعبرها، يؤلِّب هذا على ذاك ويدفع هذا لمواجهة آخر, مستغلاً جهازه لاستخباراتي, وكم المعلومات المتوفرة لديه
لم يدرك "صالح" أن هذه القوى السياسية لا تمثل خطراً إلا على أعداء الوطن, فالمنطق الموضوعي يقول إن أي حزب وطني يحمل هموم الوطن لن يكون يوماً ما خطراً على الوطن, وإن اختلفت تلك الأحزاب, فاختلافها في مجمله العام يستند إلى أسس وطنية..
الخطر الحقيقي يأتي من قوى ناعمة غير مدركة ولا تدخل ضمن الحسابات السياسية، إنها " قوى المصالح" وهي ليست حزباً ولا هي تكتلاً سرياً ولا تمثل كياناً جامعاً, لكن حجمها حين يتضخم يغدو أشبه بسحابة جراد تلتهم الأخضر واليابس وتذر الأرض بلا حياة..
إنها تعمل بعفوية النمل حين ترى قطعة السكر فتأتيها من كل سبيل دون اكتراث لأي عوامل أخرى، إنها برمجة عفوية لا تستلزم الكثير من الخبرة..
تلك القوى النفعية استطاعت ابتلاع المؤتمر الشعبي العام وإسقاط ميثاقه الوطني, وأصبح بلا ميثاق وبلا مشروع ولا رؤية, وتحول إلى أداة مرنة لمراكز الفساد وأصحاب المصالح, والنتيجة وطن منهار وثروات منهوبة ومراكز قوى أدمنت العبث والفساد لسنوات حتى باتت تعتقد أن فسادها حقوق مكتسبة لا تنازل عنها.
ذات تجربة المؤتمر تكررت في دول عربية أخرى مع اختلاف في الأشكال والمسميات ولا أحد يشك أن كل تلك الأحزاب كان لديها مشروع وطني في بداية حكمها وبعضها حملت مشروعاً على المستوى القومي، لكن قوى الانتفاع استطاعت انتزاع الحياة من تلك المشاريع وتحويلها إلى أصنام تقدس في الاحتفالات والخطب الرسمية والشعبية وليس لها أكثر من رنين الحروف, والنتيجة دمار للأوطان وإفقار للشعوب وفساد كبير تديره نخب في مفاصل الحزب والدولة, وشبكة مصالح عابرة للقارات هي أكبر من الجهاز الحكومي نفسه.
وفي خضم الربيع العربي وما يشهده من تحولات جديدة فإن قوى المصالح المفقودة سيسعون إلى العودة مجدداً وبذات الطريقة العفوية الناعمة كما تفعل النمل أمام قطعة السكر ولا يستطيع احد إيقافها أو التصدي لها، لكن بالإمكان تحجيمها وتخفيف تأثيرها إلى الحدود الآمنة وهذا ما يحدث في دول الديمقراطيات العريقة.
وفي وضعنا الحالي لا سبيل لمحاصرتها في الحدود الآمنة إلا من خلال إدراك المسارات المسئولة عن إنتاج شبكات المصالح والسيطرة عليها ويأتي المسار القانوني على رأس تلك المسارات, إذ أن شبكة قوى الانتفاع تتشكل في ظل توفر ثغرات ومساحات قانونية فارغة أو مفككة أو غير واضحة، مما يوفر مناخاً مناسباً لتشكل قوى الانتفاع, الأمر الذي يستلزم وجود منظومة قانونية متكاملة تعطي أولوية لتضارب المصالح ومعايير النزاهة والشفافية وتحاصر كل أشكال الفساد وفق رؤية كاملة تستلهم عبر ودروس الماضي القريب, وتستفيد من التجارب الناجحة في مختلف دول العالم, وفي هذا السياق فإن مؤتمر الحوار الوطني مناط به وضع اللبنات الأولى للمسار القانوني العام.
المسار الثاني هو المسار السياسي، إذ أن شبكة المصالح تجد في الأحزاب السياسية ذات التأثير القوى أو المؤهلة للحكم، تجد فيها فرصة للاستقواء على القانون والتغلب عليه أو إسقاطه إذا تمكنت من السيطرة على مفاصل الحزب وهو ما يعنى تكرر التجارب السابقة "وكأنك يا بو زيد ما غزيت"..
وفي هذا المسار على الأحزاب السياسية أن تضع لها سياسات منضبطة للاستقطاب السياسي وفق معايير وطنية وليس فقط على المستوى الداخلي حتى لا تكون ضحية لمن تعتقد أنهم قوة للحزب, وعلى الأحزاب وضع ميثاق شرف يلبي الحاجة إلى التوقف عن إنتاج نماذج للأحزاب الحاكمة السابقة ووضع المعايير والضوابط لمنع تكرر تلك التجارب, ومنع احتكار القرار السيادي وخلق حالة من الطمأنينة تجاه المستقبل..
وقبل هذا وذاك على الأحزاب السياسية أن تتخلص من قطعة السكر التي تستهوي قوى الانتفاع والمتمثلة في منهجية المحاصصة والتقاسم, فمن المقبول أن تكون عملية التقاسم في إطار إعادة التوازن الطبيعي في الجهاز الحكومي الذي نسفه نظام صالح, على أن توضع محددات ومعايير لإعادة التوازن ونهاية يقف عندها, وأن تؤسس الأحزاب السياسية لثقافة المعايير والنزاهة كبديل لمنهجية المحاصصة.
/////////
صادق عبدالرزاق العامري
قوى الخطر الناعم الفتاك 1759