حين سماعي نص "البيان الرئاسي" لمجلس الأمن في الجلسة رقم 6922 بخصوص المرحلة الانتقالية اليمنية وعلى ضوء المشاورات المغلقة لأعضاء المجلس في يوم الخميس الماضي، الموافق 7 فبراير 2013م, الذي ألقاه المندوب الدائم لجمهورية كوريا الجنوبية السفير "كيم سوك" رئيس مجلس الأمن الدولي خلال دورة شهر فبراير الجاري وما سمعته من وصف إحدى الصحف الأمريكية التي شبهته بعلاج "الصدمة والرعب" عادت بي الذاكرة إلى حرب اجتياح العراق وعملية خلع "صدام حسين" ونظامه عام 2003م.. عندما كان يحاول ديكتاتور بغداد "صدام حسين" أن يتملص من عمل فرق التفتيش الدولية على أسلحة "الدمار الشامل " التهمة التي جلبتها غطرسة وكبرياء وشطحات الرجل وأتباعه حين كان يتباهى بها مع انه لا يملك أي شيء منها يذكر كما تكشف الأمر بعد سقوطه واجتياح العراق من قبل القوات الأمريكية والبريطانية التي اكتسحت كامل التراب العراقي خلال 21يوماً من العام 2003م, وبسبب غرور وغطرسة الزعيم المهيب الركن وعدم مبالاته بمناشدات الأشقاء والأصدقاء وسخريته من الكل بما في ذلك استهجانه لأكثر من (14) قراراً دولياً صادرة عن مجلس الأمن لم يعرها المهيب الركن أي اهتمام رغم الحصار الذي فرض عليه لأكثر من (12) عاماً وازدياد معاناة شعبه التي أودت بحياة أكثر من (مليون ونصف طفل) لقوا حتفهم جراء سوء التغذية وقل الأدوية.. وعندما كان الدكتور محمد الصحاف يتحدث عن انتصارات جيشه المتقهقر إلى الوراء ويتوعد جيش "العلوج" كما أسماهم وهو يقطع الأفعى إلى أوصال في تصريحاته الصحفية, وبينما كان صدام يرقص أمام الكاميرات في شارع تشرين مع من تبقى من حراسته على أنغام أنشودته المحببة (الشباب نزلوا نزلوا عالميدان .. بقيادة أبو عدي قائدنا صدام ) كانت الأفعى قد أطلت برأسها لتقتلع تمثاله الضخم الواقع بحديقة فندق فلسطين المجاور للشارع الذي كان صدام يقيم فيه (حفلة الزار) الأخيرة, والذي اختفى بعدها ونظامه الديكتاتوري عن المشهد السياسي وعن حياة العراقيين إلى الأبد, وبالمناسبة كان اسم العملية التي قادتها دول الغرب لخلع صدام حسين قد سميت بعملية (الصدمة والرعب)!.
ومن الأهمية بمكان ونحن نستعرض مدلولات وتبعات مخاطر الفهم الخاطئ في التعامل مع البيان الرئاسي لمجلس الأمن الدولي لا بد من فهم الرسائل التي أراد مجلس الأمن الدولي أن يبعثها إلى أكثر من جهة وإلى أكثر من طرف وسنقتصر استعراض الرسائل التي بعثها المجتمع الدولي على الصعيد الداخلي وهو محور حديثنا اليوم وأهمها :
الأولى شمالية مفادها على الرئيس السابق أن يسقط من رأسه كل المراهنات الخاسرة على إفشال العملية السياسية, وحنين العودة إلى السلطة وتشبثه بالزعامة وإعلان دولي صريح لفك الارتباط بين صالح والمؤتمر, وإتاحة الفرصة لحزب المؤتمر أن يستغل المناخ الجديد للتحول السياسي إلى حزب سياسي بدلاً من وظيفته السابقة كمؤسسة تابعة لسلطة الأسرة والقبيلة!.
والرسالة الثانية جنوبية, لما توعد وهدد به من إجراءات عقابية صارمة , وتمثل دعوة لفك الارتباط بين البيض والقضية الجنوبية وإلقاء حجر في نهر الحراك الجنوبي, لتحريك المياه الراكدة, وإعطاء الجنوبيين الفرصة للاستفادة من مناخات التغيير التي هبت رياحها على معظم دول المنطقة, والتحرك الجنوبي الايجابي للتعاون والتعامل مع جهود المجتمع الدولي ومحاولاته الحثيثة لإيجاد لغة مشتركة من التخاطب, واستلهام رسائله العديدة التي بعث بها مؤخراً من خلال الوفود الدولية العديدة التي زارت عدن وكان أهمها زيارتين للسيد جمال بن عمر, مبعوث الأمم المتحدة وزيارة وفد سفراء مجلس الأمن الدولي والدول العشر برئاسة وزير الدولة للشؤون الخارجية البريطانية في الخامس من نوفمبر 2012م ولقاءاتهم بمكونات الحراك الجنوبية, في أول رسالة من المجتمع الدولي للاعتراف بالقضية الجنوبية وطمأنة الجنوبيين بحل القضية الجنوبية والإعلان عن فتح الاتصال والتواصل المباشر بين المجتمع الدولي بمختلف مؤسساته المعنية والجنوبيين, إن وجدوا.
وبهذا البيان الرئاسي لمجلس الأمن الدولي بشأن الأزمة في اليمن, حيث استجاب 14 عضواً في مجلس الأمن الدولي لطلب روسيا إجراء تعديلات على البيان الرئاسي الخاص بالأوضاع في اليمن والذي أعدته بريطانيا..
وطبقاً للإجراءات، فإن البيان الرئاسي يمر بـ "مرحلة صمت" حتى توقيت محدد يتفق عليه الدول الأعضاء، ويعتبر نافذاً طالما لم يعترض عليه أي عضو من أعضاء المجلس, حيث يتطلب إصدار البيان الرئاسي الموافقة الجماعية لأعضاء المجلس الخمسة عشر دون استثناء.
ذكر البيان الرئاسي أن مجلس الأمن "أحيط علماً بالادعاءات المستمرة ضد الرئيسين اليمنيين السابقين علي عبد الله صالح وعلي سالم البيض، وبعض الأفراد والجماعات التي تتلقى المال والسلاح من خارج اليمن لغرض تقويض عملية الانتقال".
وأكد البيان الرئاسي استعداد مجلس الأمن للنظر في اتخاذ مزيد من التدابير، بموجب المادة 41 من ميثاق الأمم المتحدة لمواجهة الإجراءات التي تهدف إلى تقويض حكومة الوحدة الوطنية ومواصلة عملية الانتقال السياسي.
وبهذا يكون مجلس الأمن الدولي ولأول مرة في تداولاته لبحث الأزمة السياسية في اليمن, قد تجاوز عادته في العلاج بالمسكنات المهدئة, باستخدامه هذه الجرعة الشديدة من علاج "الصدمة والرعب" كما وصفتها يوم أمس إحدى الصحف الأمريكية في سياق تعليقها على البيان الرئاسي لمجلس الأمن الدولي بشأن الأزمة في اليمن. .
فمن خلال هذا البيان يكون مجلس الأمن الدولي قد أسدل الستار النهائي الذي لا رجعة عنه, على المستقبل السياسي لكل من صالح والبيض وأتباع كل منهما من المشمولين بقائمة مصفوفة العقوبات الدولية. .
وما يعنينا هنا في استعراض مدلولات البيان الأممي, هو ما ينبغي أن يتفهمه أبناء الجنوب تحديداً, فيما نلمسه من التفاتة غير مسبوقة من قبل المجتمع الدولي ومؤسساته المعنية ورفع مستوى درجات تعاملها مع الشعب الجنوبي مباشرة التي وردت نصياً في هذا البيان وخلت منه مفردات مسمى "الحراك الجنوبي" عل وعسى أن يلتقطوا هذه الرسائل والفرص الأممية المتاحة والسانحة اليوم, ومحاولات الجوار الإقليمي والمجتمع الدولي للملمة شملهم وتحقيق وحدة الصف الجنوبي, والإجماع على قيادة رشيدة تقودهم خلال هذه المرحلة الحساسة والدقيقة, بعد أن حسم المجتمع الدولي أمره بما تضمنه "البيان الرئاسي" لمجلس الأمن الدولي الأخير بشأن مستقبل العلاقة في التعامل مع البيض ووضع الجنوبيين أمام خيارين لا ثالث لهما: إما التوحد فيما بينهم ومد أياديهم للمجتمع الدولي لبحث ما يرتضونه من ممكنات الحلول السلمية المتاحة لحل قضيتهم, وفقاً والقانون الدولي وحق الشعوب في تقرير مصيرها, وإما السير وراء سراب "الزعامة الوهمية" غير المتوجة والشعارات الثورية الفارغة واللحاق بدخول نفق القضية الفلسطينية, مع احترامي لتضحيات الشهداء والمعتقلين من أبناءه الأبرياء الطيبين!.
تابعنا ردود الأفعال على بيان مجلس الأمن الدولي وكان رد حزب الرئيس السابق بمستوى فهم خطورة تبعات البيان الدولي على مستقبل "صالح" شخصياً وإن كان البيان قد استهدف في رسالته الموجهة إلى الشمال بفك الارتباط بين صالح والمؤتمر إذا يريد حزب المؤتمر أن ينتقل من مؤسسة سلطوية إلى حزب سياسي يمكنه أن يستفيد من العملية الديمقراطية لما بعد صالح.
وقد اظهروا فيه مرونة سياسية من الترحيب والتجاوب مع المجتمع الدولي ومجلس الخليج والمبادرة الخليجية, وإن كانت النيات معروفة مسبقاً, ومشكوك في صدقيته, لما عرف به الرئيس السابق من حنكة في المكر والخداع والتلاعب في كل تعهداته المعتادة مع الآخرين, ما تميز به رد الرئيس السابق صالح وحزبه , لغة جديدة من التهذيب الدبلوماسي الحذر, لم يقولوا ندين أو نشجب أو نستنكر أو نرفض البيان الدولي, كما فعل الآخرون .
مع الأسف لم يوفق مكتب البيض في رده على بيان مجلس الأمن الدولي وهذا ما ينبغي أن يتلافاه الحراك الجنوبي ومكوناته عامة والتداعي إلى الخروج والإجماع على صيغة سياسية عقلانية متزنة لا تسخر وتستهزئ بمجلس الأمن الدولي ومجلس التعاون الخليجي والأسرة الدولية, وإلا فإننا نغامر بمستقبل الجنوب وقضيته العادلة, إذا كان هذا هو منطق رموز الحراك الجنوبي مع الأسف الشديد!.
نيلسون مانديلا كان إرهابياً في نظر الغرب وهو سجين سياسي في جوهانسبرج وموصدة عليه كل الأبواب أو الاتصال بالناس, ولكن لأنه صاحب قضية عادلة وخلفه شعب عظيم بقيادة المؤتمر الوطني الأفريقي تحكمه منظومة مؤسسية متكاملة من الأطر والهيئات القيادية المتخصصة والكفاءات السياسية المقتدرة, والبرنامج السياسي كامل الرؤية والعلنية والوضوح, مع انه كان يعمل "سرياً" وكان معظم قادته أسرى أو مطاردين, استطاع رفاقه بعقلانية طرحهم السياسي وإحسانهم لتقديم قضية ورسالة شعبهم وزعيمه المعتقل "مانديلا" وكأقدم سجين في العالم "27سنة", فتجاوب العالم المتحضر معهم, فخرج من الزنزانة إلى كرسي الرئاسة في جنوب أفريقيا..
واضطرت أمريكا أن تفرش له السجاد الرئاسي الأحمر عندما وطأة قدماه العاصمة واشنطن في أول زيارة خارجية له بعد خروجه من السجن وتوليه الرئاسة في جنوب أفريقيا! ومع أن المفارقات كبيرة بين ما اجترحه وعاناه وسعى من أجله وقدمه "مانديلا" ورفاقه, لشعبه, وبين ما جلبه "البيض" لشعبه, بنرجسيته الفردية المتزمتة ونزقه السياسي المغامر المتطرف, من مآسٍ وويلات لا تحصى ولا تعد, أغلاها خسارة "ضياع دولة" وأكبرها كارثة "استباحة وطن" وأشدها مأساة تعريض شعبه لما هو أسوأ من"العبودية والاحتلال".
فهل نستطيع أن نفعل ذلك بدلاً من الشطحات الصبيانية والعنتريات المتطفلة والمغامرات غير المحسوبة, حيث ونحن نرى أن هناك من يسوق شعبنا إليها بوعي أو بدون وعي, ويجازف بمغامراته المعهودة بنضال أبناءه السلمي للدخول في مواجهة مع المجتمع الدولي والإقليمي غير محمودة العواقب لا سمح الله؟!.. وما آن لنا أن نتحرر من العواطف الساذجة والبليدة في التعامل مع القضايا المصيرية الحساسة, التي تهم كل أبناء الجنوب عامة وتمس شعبه وناسه وتستهدف سيادة الوطن ومستقبل أجيالنا القادمة ونحسن قراءة وقائع المشهد السياسي الحالي لنضع مصلحة الشعب والوطن تسبق ما دونها من مصالح الزعامات الفردية, وجعل مصلحة الأمة والوطن تعلو فوق كل اعتبار؟!.
علي منصور أحمد
بيان مجلس الأمن.. الصدمة والرعب! 1605