في تصوري أن الأزمة المالية العقارية التي عاشها العالم عام "2008"ومازالت قائمه إلى اليوم هي أهم مُتغيّر أثَّـر على مُجريات الأحداث السياسية وهـزَّ بعنف الاقتصاد على المستوى الدولي وبدأت النظرية الرأسمالية تترنَّح كـعقيدة ودولار وكانَّ " ادم سميث" والدكتور "ريكاردو" وصلا بنظرية الاقتصاد الحُر إلى آفاق مسدودة..!.
الدولار يكاد أو هكذا بدا انَّهُ يحتضر واصبحت الدُنيـا مَشدوهةً لهذا الهول العظيم غير مُصدقةً أن الدولار العملاق يتهاوى بدون معاول هدمٍ واضحةً للعيان انه ينهار - كَمـا يبدو في ظاهره - من تلقاء نفسه..! وهرع " أوباما " المفجوع حينها ومازال بوعيٍ أو بدون وعي لإيجاد مخرجٍ لهذه الإشكالية الخطيرة فسكرةُ الانهيار أَّـرت على أذهان عمـالقة الاقتصاد فمـا بالكم بالمسكيـن " أوباما " الذي لم يجد أمامه حاضراً كـ فكرة لانعاش الدولار المُحتضر من الناحية النظرية إلا استنساخه بمزيدٍ من طباعته هذه الفكرة المجنونة في ظاهرها "وان تُشكِّل على المدى البعيد كارثة اقتصادية قد تاذن بأفول نجم الحضارة الغربية برمتها" إلا أنها كانت الخيار الراجح الذي لابديل له إلا انتحار الدولار ذاته! إن طباعة مزيداً من الدولارات كـ خيـار لجأ إليه أوباما وضخَّها في السوق العالمية بدون أي غطاء ما هو في حقيقة الأمر إلا إنعاش مؤقت لـهُ لن يُغير شـيئاً في حجم كارثية الأزمة المالية القادمة البادية ملامحها في الآتي من الأيام !وكل ما زادت طباعتهُ كُل ما تشكَّلت ملامح النهاية المؤسفة للدولار الذي أصبح عارياً تماماً من غطائه الذهبي والذاتي , وممـا زاد الطين بلة أن تُغلق أميركا بالتزامُن مع الأزمة أكثر من خمسين في المائة من قواعدها العسكرية في العالم مُضعفةً بذلكَ أكثر من قيمة الدولار الحالية الذي فقد تلك القيمة الاقتصادية المرجوة منهُ في الفترات الأخيرة بعد أن أصبح بدون غطاء ذهبي ولم يعُد له قيمة في حقيقة الأمر إلا بتلك الأساطيل العسكرية السابحة غدواً ورواحاً في البحار والمحيطات والقواعد المُنتشرة في الدِّيار التي تُرسل رسائل اطمئنان لكُل من يتعامل بالدولار.. احم نحنُ هنا..! فلا تخشوا من دولارنا العاري من الذهب فنحن نُعوضه برصاصنا المُدبب فيطمئن المتداولون بصحتهِ وانتعاش ثرواتهم على الأقل أولئك الذين لايجدون بُدَّا من التصديق بأنه مازالت لديهم ثرواتٌ قابعةً في قلب الدولار وقدميه وعينيه!.
إن إغلاق القواعد العسكرية افقد الثقة في قيمة الدولار أكثر من قلق التزايد والإكثار من طباعته إلى درجة التضخُّم المُروع ..!.
وعلى ذات السياق إبان أوباما في خطاب تنصيبه الأخير لولاية ثانية عن إستراتيجيته المُرتكزة على إصلاح الاقتصاد الأميركي المُهتز المأزوم في ذاته الذي عانى ويُعاني منه الشعب الأميركي خاصةً والعالم عامةً.. فـبلوغ حجم الدَّين العام إلى أكثر من " 20 تريلون دولار " قرَع كُل أجراس الإنذار ويبدو إن أوباما كان أكثر خيفةً من غيره من هذا الوضع الذي وصل إليه الحال الأميركي كـ نتيجةٍ حتمية لطبيعة السياسات التي انتهجها سابقوه في البيت الأبيض فقرَّر التغاضي عن الهمٍّ العالمي السياسي والتفرُّغ للهَم الأمريكي الداخلي خاصةً الاقتصادي منه تاركاً للقدر التصرُّف في تلك القضايا الشائكة التي كانت من قبل محل اهتمامه فـلتذهب أفغانسان وباكستان والعراق وإيران إلى اقرب جحيم وما القضية السورية وفقاً لهذا التوجُّه إلا ثانوية ستُحَّل بالطُرق الدبلوماسية من خلال التفاهُمات مع الروس والإيرانيين بما لا يضُر بالمصالح الأميركية فلا مجال هُنا لإعمال القيم الإنسانية الحضارية بـل المجال هو أعمال المصالح الأميركية..! فنظرية " ميكافيل " أجدى من نظرية "حق الله " في هذا الوقت بالذات فترجيح وجود الله في الفعل السياسي قد غاب مع واقعية خروج الجنود الأميركان من المنطقة برمتهـا فعالم وجود الله الذي كان يُـرجِّحه لدى الأميركان هو وجود الجنود في المنطقة ولقد زال هذا المُرجح برمته بعد أن غادرها الجنود أنفسهم وهذا هو المُهم سياسياً ولا مانع من تدخُل الدُبلوماسية الأميركية للضرورة القصوى بجوار بعض حلفائها بما لا يؤدي إلى تحمُّل أي تبعات أو التزامات قانونية من نوعِ ما على المستوى المادي أو العسكري وزاد من ترجيح سياسة الانكفاء على الذات أن التغيُّرات في الشرق الأوسط عامةً وفي الوطن العربي بشكلٍ خاص كانت في عموميتها لصالح "اللبرالية العالمية " في ظاهرها خاصةً وأن هُناك تقاطُعات ومصالح مُشتركه مع " الليبرالية الإسلامية الحداثية " -كما يحلو للبعض أن يصفها - التي يتزعمها الأخوان المسلمون في العالم والذي أصبح وصولهم إلى سدَّة الحُكم فيه مصلحةً أميركية نسبية مرحلية -غير صادقة على ما يبدو- على مستوى العلاقات الثُنائية وفي نفس الوقت فيه مصلحة متوخَّاة من الناحية الإستراتيجية فوجود أنموذج سُنِّي مُعتدل في المنطقة قادر على مُحاكاة الأنموذج الشيعي وإلا نموذج اليهودي هو غاية متوخَّاة لا نهائية لملامح هذه الاستراتيجية وبذلك يغدو هذا التوازن في ميزان القوى مابين الشيعة والسُنة واليهود في إطار المُمكن بعد أن كان مُغلقاً في دائرة المُستحيل.
هذا التوازن يُتيح لأمريكا التفرُّغ النوعي للقضايا الاقتصادية واستبدالها بالجهد السياسي والعسكري الذي كاد يوصل أميركا إلى حافة الانهيار..! هذا التغيُّر الجذري في السياسة الأمريكية ارتسمت كل معالمه في خطاب أوباما الذي اثَّر و يؤثر في القضايا العالقة في "الشرق الأوسط " وقد انعكس أثره بشكل مباشر وآني في القضية السورية على مستوى الداخل خاصةً في مستوى إيقاعات العمليات العسكرية الذي يسعى كل طرفٍ لتعديل ميزان القُوى لصالحه ! وفي طبيعة الخطاب السياسي للمُعارضة الذي بدا جلياً في خطاب "معاذ الخطيب" الداعي للحل السياسي, مُغايراً بذلك لما سبقهُ من أفكار كانت ترتكز على الحسم العسكري .. وأثَّر أيضاً بصورة مُباشرة على القضية الفلسطينية فباشرت إسرائيل فوراً بهدم المنازل الفلسطينية كما لم تفعلهُ من قبل..! وتسعى بوتيرةً عاليةٍ في بناء المستوطنات وتنشُر مزيداً من صواريخ القُبَّة الحديدية على الحدود السورية وتُلقي القبض على مزيداً من قيادات حماس وعلى ذات السياق شَعرت إيران بحيوية وضعها بعد خطاب أوباما وفي تصوري إن إيران تبدو اليوم بعد هذا الخطاب في أحسن حالاتها الأمر الذي سينعكسُ معه الوضع برمَّته في سوريا وفي العراق وفي الخليج وفي اليمن لصالحها بعد الانحسار الأميركي الدرامي في الشرق الأوسط ...!.
إن خطاب أوباما أعتبرهُ شخصياً هو خطاب وداع الحضارةِ الأميركية وأفول شمسها على العالم بكُله واستشعار ذلك بحاجةٍ إلى حِـس وحضور سياسي وايديولجي وهذا ما تفعلهُ إيران وروسيا والصين الذين قرأوا طبيعة التغيُّرات في العالم وعملوا بموجبها لصالح شعوبِهم وهذا ما نلمسهُ اليوم في سياسيتهم الوطنية.
العالم العربي بحاجةٍ ماسَّة مُتانية لدراسة آثار انكفاء أمريكا عليهم وعلى قضاياهم وعليهم أن يستوعبوا أن أميركا أمس غير أميركا اليوم وإن التشبُّث بها قد يبدو مُحرجاً حتى بالنسبة لأميركا ذاتها التي لم تعد تمتلك الإرادة أو القدرة على الاستمرار بالدفاع عن حُلفائها في ظل الوضع الطارئ عليها حضارياً وأن الآتي من أيامها بالكاد يكفي لمحاولة الخروج من أزمة الدولار وتأخير سقوطه حتى لا تسقط أميركا معه في آن واحد...!.
إن على العالم العربي البحث عن موطئ قدم له في العالم الجديد الذي يتشكَّل في خِضَم المُتغيرات قبل أن يصبحوا هُم أنفسهم موضوع آثار هذه التغيُّرات وضحيته وغنيمته وعبيده..! حينها فقط يُصبح كل البُكاء لا يُساوي لحظةَ عرقٍ تـتـصببُ من جبـين عبدٍ مذبوح كـان حُـراً رأسه كـ حديقة إزهار وعينيه كـ عيني ضبيٍ شارد في كُل الدنيا كانت وضيفتهُ فقط صَـب قنينة عطـر فوق كُـل دولار..! أو عزيز قومٍ كانت تقطُر من وجنتيه قطراتُ ندى وهو مُضمر وجدانياً في عالم الأسباب كـ قابع في منجم فحمٍ أو قعر بئر بترول بعد أن كان يُدعى مجازاً فيما مضى أميراً أو رئيساً أو ملكاً لكنَّهُ كان بل وطـن .!!
د/ عبدالله الحاضري
انكفاء أمريكا على ذاتها..وأثره على القضايا العربية 1784