أنظُـر إلى خارطة الوطن العربي ثُم ضع دبُّوساً فوق خارطة دول الخليج وآخر فوق خارطة اليمن ثم ضلَّل في مابين الدبوسين..ثُم أعد النظر مرَّتين للخارطة المُضلَّلة فأنا على يقين أنك لن تتردد في القول ما الذي يجري ؟! اليمن هي المُحتوى الطبيعي لدول الخليج بل هي القلبُ النابض والمحضن الآمن لها حين تشتدُّ عليها الكروب أو يجور عليها الزمن- فلآ يأمن مكر الله إلا القوم الظألمون- لا يفصلُ بينها وبين اليمن في الطبيعة مانع جُغرافي أو يفصل بينهما مانع اجتماعي أو مانع عقلي فكُل مقومات الإنصهار الذاتي بين اليمن والخليج واقعةٌ بالفعل الكوني في الطبيعة الجُغرافية والإنسانية والفكرية والتاريخية والمانع من الإنصهار طارئٌ سياسي غير مألوف بطبيعته مُخالف للتَّاريخ وللواقع المُشترك الذي كان يجمع اليمن بإخوته الخليجيين في بوتقةٍ وآحدة..! وفقاً لهذه المعطيات يقفز إلى الذَّهن سؤال برغم كُل شيء مفادُه لماذا اليمن ليست في مجلس التعاون الخليجي ؟ لماذا اليمن ترزح تحت نيَـر الفقر وهي واقعة وقابعة فوق جُغرافية الذهب الأسود والأبيض والمزركش ومجاورةٌ لأخوة العروبة والدين والتاريخ المشترك ؟! كيف يرضى بذلك مُجرد إنسان لاعلاقة له بالقيم ولا بالدين فضلاً عن إنسان أنتجته حضارة الدين القويم ؟ لماذا ترفض دول الخليج أخوَّة اليمن المُقدرة من الله وتبحث عن أخوةٍ مُفترضة غير مُمكِنةٍ عقلاً في شرق الأرض وغربها ؟ لماذا دول الخليج لا تُعير اليمن إهتمآماً من أي نوعٍ كآن إلا حين تشعر أن هناك خطورةً ما قد تقع عليها منها فتسعى لاحتوائها ثُم تنصرفُ عنها كُليةً لتواجه بعد ذلك واقعها المُر والعالم من حولها بإمكانياتها المتواضعة وهمومها التي لاحدود لهآ وحيدةً وكأنها مبتورةً عن كُل شيء حتَّى عن التاريخ..! بهذه المُعطيات المؤسفة أدركتْ إيران أن اليمن قاصيه عن إخوتها معزولةً عن الجغرافيا المحيطة بهآ سياسياً وإجتماعياً بداعي فقرها المُدقع وجهلها البيِّن الذَين قد يؤثرآ على مُحيطها ذاك المُغاير لها مدنياً بزعمهم الظالم المُجانب للصواب ..! ناهيك عن المُعامله القاسيه التي يلقآها اليمني حين يحلُّ عليهم ضيفاً طلباً للرزق فغاب الإنسان اليمني عن الخليج قسراً وغاب الخليجُ عن اليمن إختياراً..! فسعتْ إيران ومآزالت جاهدةً لملئ الفراغ الخليجي ضرورةً لها ورغبةً لغيرها وكسر العزله عن اليمن ومواساة الإنسان فيها بكُل الإمكانيات بما فيها الأيدولوجيآ لكن ليس حباً فيها بل من منظور أمني قومي إيراني كـحتميةٍ إقتضتها مُعطيات صراعها مع الغرب على مراكز النفوذ في الشرق الأوسط خآصةً في الخليج فهي تدرك أن إمكانيتها لا تسمح بمنازلة ومناورة الغرب في عُقر داره وأدركت أن حُريته في مناورته مكمنها في مصادر جغرافية طاقته وسر حيويته " منابع النفط في الخليج " وهذا هو الخيار الأقرب للإمكان الإيراني, ومن الناحية التاريخية نفوذ إيران لا يتعدَّى بوابة العراق ودول الخليج, فكانت اليمن باستمرار موطئ قدم لها للعبور إليها وهي المُنطلق الرئيسي لتطبيق مفهوم الأمن القومي الإيراني وفقاً لمُعطيات الصراع مع الغرب وهي في نفس الوقت إرثٌ تآريخي للإمبرطورية الفارسية فخَلقتْ في فترةٍ قصيرة حركات مُسلحة تُديـن لها بالولاء الفكري والسياسي كـ "الحوثيين" مثلاً وكانت استجابة شريحةً ذآت شوكة من المجتمع اليمني لهذا الخلق مُتسارعة وبصورة غير متوقعه..! فاليمنيين أصلاَ في ظِل نبذ الخليج المُتكبّر لهم كان لديهم الاستعداد الكامل للتعاون التآم مع أي قُوى أخرى تتـفهَّم لوضعهم المأسآوي وتُلملم كبريائهم المجروحة, تلك التي أحسواْ أن الخليج قد مسها بسوء ! وفي نفس الوقت قآدرةً على أن تمُد إليهم يد العون مع إشعارهم بإخوة الدين والإنسانية وعدالة قضيتهم المستحدثة التي تشكَّلت في الذهن الإجتماعي وهي أن الخليج لا يرفض فقط أخوَّتهم بل يُهينهم من أجل لقمة العيش وما يجري للمُغترب اليمني في بُلدانهم تشيبُ منه الولدان ! ووفقاً لهذا المفهوم الاستثنائي قدَّمت إيران نفسها لليمن اجتماعياً كـ "الأخ المُحب الأكبر " وسياسياً كـالمنقذ لها من الذُّل والإهانة ! وقدَّمت في نفس الوقت لهؤلاء فكرة عدالة قضيتهم التي هي جُزء من قضية " آل البيت " والتي يجب نصرتها والوقوف بجوارهم وجوارها خاصةً ضدَّ عُملاء أمريكا من الخليجيين واليمنيين التابعين لهآ ! وتحرير الأماكن المقدسة التي مازالواْ يحتلونها كـ :مكة والمدينة وبقية المُقدسات في المنطقه برمتها" ! والنيـل مِن مَن تسببواْ عمداً في إهانة اليمن والعالم الإسلامي فكان هذا الطرح مُلامساً لكل الهموم وكُل الجروح ومواتياً لذك الرصيد التراكُمي اللاصق في الذهن الاجتماعي عن مفهوم ظُلم ذوي القربى..! لقد كان لغياب الخليج في اليمن أثرهُ البالغ في تشكُّل الوجود الإيراني فيه فلا يوجد فراغ في الكون كقاعدة فيزيائية وكقاعدة اجتماعيه أيضاً فأي فراغ طارئ كوني أو إجتمآعي لابُد أن يتمَّ ملئهُ والفراغ الذي تركه أخوَّة العروبة والدين في اليمن ملأتهُ إيران في زمن قياسي غير معهود..! ونجحت بموجبه في تصدير الثورة وكان المصدَّر إليهم في اليمن لديهم من مسوغات قبولها أكثر من مسوغآت المُصدِّر ذاته ! وبنظرةٍ سياسية فأحصة نجدُ أن النظام السابق كان يعيشُ حالة اضطراب كُلي نظري وفعلي في كيفية التعامُل مع وجوده السياسي في ضِل الغياب الخليجي الفاعل في اليمن بل إن شئت القول في ظِل التآمُر على اليمن في مُعظم الأحيان المُنطلِق من ديار الأخوة " الجيران " فـفكَّر جدِّياً في التعامُل مع إيران كـبديل غير أمثل, لكن كان يردعُه الخوف على مصالحه السياسية المتاحة المحدودة في الخليج ذاته هذا جانب والجانب الآخر كان الغموض الذي يلف إيران في تعاملها الدولي عامل ثانٍ سلبي, خاصةً وأن تعاملها في المنطقة يغلبُ عليه الطابع الأيديولوجي أكثر من جدوى المصالح السياسية وهذا يُشكِّل خطورةً على استقرار النسيج الاجتماعي اليمني برمته, لهذا لم تتخذ صنعاء حينها قراراً بالتعاطي السياسي الكامل مع إيران أو تتوسع في حجم التعامل التجاري أو غيره مع ضرورة التأكيد بالقول أن صنعاء احتفظت بعوامل الاستمرار في شــد إيران وجذبها إليها من خلال السماح للتيارات اليمنية المؤدلجة إيرانياً بالوجود والنمو المُضطرد في الأوساط الاجتماعية وغـض الطرْف عن كُل الخروقات التي ترتكبها في حق المجتمع اليمني وخدشها للأفكار المعتدلة وقيم التسامح التي الِفتها اليمن على مـر تاريخها..! لقد قصَدتْ صنعاء فيما مضى من خلال هذا كله التلويح للخليج بأننا قد نُضطر للتعامل الإيجابي مع طهران في حال استمراركم في تجاهلنا والعمل على ضرب مصالحنا كما وقع بالفعل بتدمير عـدن كمفهوم اقتصادي ومنطقة حرة واستبدالها بـدُبي دون مراعاة لأدنى حقوق الجوار أو الأخوة ولو في أدنـى مستوياتها أن ُنتركْ وحقنا في اختيار سُبل العيش الكريم دون التآمر علينا في الظلام البهيم..! غير أن الخرق أتسع على الرقع ! ولم تستطع صنعاء ضبط إيقاع التيَّار الإيراني التي أوجدته وفق ما تريد وبدا كأنه يتفلُّتُ منها وينقلبُ عليها فشكَّل هذا التيار في فترات ضعف الدولة تهديداً مُبآشراً فعلياً ونظرياً على الأمن القومي الخليجي فالحوثيون قد إخترقوا الحدود السعودية وشكَّلواْ خطراً حقيقياً عليها وسُفكت الدماء وكانت البداية التراجيدية البعيدة لسوء التعامل السياسي والاجتماعي مع اليمن وعدم تقدير خطورة تجاهلها وتركها لُقمةً سائغة للاعبين الدوليين والإقليميين .! واليوم أجدني مُضطراً للقول أن سفينة الأسلحة الإيرانية المضبوطة في اليمن لم تكن تستهدف اليمن الذي أصبح في حقيقة الأمر محطة صراع دولي واقليمي ولم تكن تعني الحوثيين في شيء فهةلاء قد أصبحواْ من صُنَّاع القرار السياسي ولهم وجودهم الفاعل على كل المستويات اليمنية ولم يعودواْ في تصوري بحاجة لهذه الأسلحة وإنما أتوقع أن هذه الأسلحة مُعدَّة خصيصاً لصراع إقليمي من المُحتمل أن يندلع قريباً في المنطقة فنوعية الأسلحة وطبيعة تصنيعهآ تُشير إلى أماكن الصراع وأدواته واتجاهاته والقوى القادرة على استخدامه وأن هذه الصفقة المقبوض عليها في تقديري قد سبق دخول غيرها الكثير في الفترات الماضية, خاصةً إبان "الحروب الستَّه" وزمن الثورة الشبابية والأخطر من هذه الأسلحة هو وجود الوسائط البشرية المؤهلة عسكرياً القادرة على استخدامها بتكتيكات الحرس الثوري وربيبهُ "حزب الله" وعلى ذات السياق أصبح في الوجدان قيادات عسكريه على مستوى عاليٍ من التدريب والتأهيل قادرةً على صياغة الإسترايجية الإيرانية في المنطقة وترجمتها إلى وقائع تكتيكية بدون حاجةً فاعلة لأسلحة مُهربة لسببٍ بسيط أنها قادرةً على تصنيعها بأقل الإمكانيات إن اقتضت الضرورة.! لقد كان للفراغ الخليجي في اليمن ثمنه الباهظ ولاستمرار تجاهلها أيضاً سيكون له ثمنه الباهظ ولا أجدُ بُداً من القول أنَّهُ قد حان الوقت للتفكير جدياً في وضع اليمن على المستوى الخليجي وأنَّهُ من الغباء السياسي استمرارها خارج المجلس, خاصة في هذه المرحلة التاريخية الحرجة على أقل تقدير من منضور الأمن القومي العربي كلما ظلت اليمن خارج هذا المجلس إزدات المخاطر أكثر على وجودها والوجود الخليجي السياسي النسبي في المنطقة ولأني كنتُ قد أكثرت في مقالاتٍ سابقة من طرح هذه الفكرة إلى حد الملل من تكرارها فما ذلك إلا من باب " وذكر.." فلعلها في يومٍ من الأيام تجدُ قلوباً واعية أو آذاناً صاغية قبل أن نستيقض في يوم من الأيام فلا نجد إلا طهران في قلب صنعاء اختيار المُمكن المرجوح المُلتهب..! فأحياناً تجري السفُن المضطربة في أعالي البحار بما تهوى أغلب الرياح المجنونة القادمة من كل الصحاري والفيافي والقفار.!
د/ عبدالله الحاضري
إيران وخيارُ الإمكان المُلتهب ! 1963