من على شرفة مكتبي المطل على شارع السفر أرقب كل يومٍ منظراً مؤلماً وحزيناً، مئات النازحين يغادرون ديارنا إلى دار النزوح المحدد سلفاً، بمحض إرادتهم وبرسوم باهظة يدفعونها مسبقاً..
إنها الساعة الثالثة مساءًً من عصر كل يوم موعد الانطلاق إلى المعاناة والذل والمهانة والعبودية "المغلفة" بغلاف العمل والفيزا والكفيل وما إلى ذلك.. باصات نقلٍ جماعي تقل المئات من خيرة شباب محافظة إب إلى مدن الغربة والضياع والموت الجماعي، تاركين مدينتهم جدباء من الشباب، قاحلة من النشاط، نائمة في عز النهار، تنام مبكرة وتصحو متأخرة وتظل هكذا دائماً في مؤخرة ركب الحضارة والتمدن.. لا أدري لمَ النزوح بعد أن أغلقت ملاجئ النزوح أبوابها في وجوهنا, لا أدري لمَ النزوح وديارنا أفضل من ملاجئهم، لكنها على ما يبدو العادة السيئة التي توارثتها أجيال إب عن بعضهم على مر السنين والأعوام.. غربة ونزوح لا لشيء سوى الغربة والبعد والفراق!!.
إن الاغتراب عن الوطن والبعد عن الديار يعني التشرد والتمزق والنزوح بغض النظر عن تجهيزات ملاجئ النزوح المريحة ووسائل العيش الكريمة فيها..
اتسمت إب بجمالها ورونقها وحلتها الخضراء البهية وعطاءها اللا محدود في الوقت الذي اتسم فيه أبناؤها بالجفاء والبعد والتنكر لمدينتهم الساحرة.. تأسرني إب.. إب البلدة والخضرة والحضارة والإنسان،في حين يغادرها أهلها باحثين عن موطنٍ يكفل لهم العيش الهانئ والمقام المريح.
على مر العقود الماضية وإب المحافظة تنتج أجيالاً بكثافة منقطعة النظير ترقب نشأة أجيالها لحظة منتظرة منهم تعميرها وبناءها وتنميتها،لكن ما أن تنشأ هذه الأجيال وتكبر حتى يغادرونها متنكرين إلى بلدٍ آخر وعيشٍ آخر وحياةٍ أخرى.
إب.. مدينة النزوح هكذا يمكن لنا أن نسميها وهكذا يمكن للاسم أن يكون في محله،لِمَ لا وعشرات الآلاف من أبنائها في بلد المهجر"أمريكا، أوروبا، الخليج، والمدن اليمنية الأخرى " يقاسون معاناة الغربة وشظف العيش وقساوة البعد وألم الفراق..
لست أدري ما إذا كانت ستبقى إب ولاّدة للنزوح.. توّاقة للوصول أم أن أبناءها سيقررون ذات يوم العودة إلى ديارهم لبناء هذه المحافظة الأبية وتنميتها والنهوض بها لتصبح مدينة تضاهي المدن وعروسة يعشقها الكل وقِبلة يتجه لها الجميع.
إب عاصمة السياحة هكذا نريدها أن تكون، ولكن كيف ستكون عاصمةً سياحية ومقوماتها البشرية من كفاءات وقدرات خارج الديار ومقومات البنى التحتية التي من المفترض أن يُسهم في بناءها وتشييدها أبناء البلدة تفتقر لمقومات العاصمة والسياحة والمدينة معاً.
تظل الغربة غربةً والنزوح نزوحاً مهما كانت مغريات البقاء ومبررات السفر،وتبقى الديار هي المأوى والملاذ.. يؤسفني حال المغتربين السيء ووضعهم الرديء والمتردي ومعاناتهم اليومية مع سُبل العيش ووسائل الحياة ودروب البقاء في بلد المهجر،فالأخبار التي تأتينا من هناك يومياً أشبه بالحكايات والأساطير تحكي لنا مآسٍ ومواجع وآهات المغتربين اليمنيين في دول الجوار وكيف أن حياتهم أصبحت جحيماً لا تطاق..حياة الذل والتركيع بكل ما تعنيه الكلمة من معنى،وكيف أن المقام في بلدٍ كالسعودية لم يعد له مقام بعد أن تفنن نظامها في تركيع اليمنيين وإذلالهم وأهانتهم..
ماذا تعني لك الغربة أخي النازح ومتطلبات الإقامة والتأمين والواجبات السنوية أكثر من الدخل أو ما يوازي ذلك؟!..
شيء مؤسف أن يكون وضع إخواننا المغتربين هناك هكذا, لكن المؤسف جداً ذاك التسابق المحموم بين شباب المحافظة وشباب اليمن ككل مع الزمن لغرض السفر إلى السعودية للبحث عن ذلٍ جديد ومهانةٍ جديدة ومعاناةٍ أخرى.
إنه من البلادة في التفكير و العقم في الإدراك أن ينفق الشاب اليمني أو أسرته الكريمة أعز ما يملكون لشراء فيزة عمل"صك عبودية " في الوقت الذي من سبقهم إلى هناك يئنون تحت وطأة الوضع المزري والمعاملة القاسية والهوان المستدام.. سيكون أفضل لك ولمدينتك ولوطنك أخي المتعطش للنزوح لو أنفقت هذا المال هنا لفتح متجر أو بناء عقار أو اقتناء وسيلة دخل تقيك حاجة السؤال ومعاناة الفراق وذل البُعاد وهوان الناس.
دعوة
دعوةٌ إلى أولئك المتحمسين للسفر: لم يعد للسفر فائدة, إبقى هنا.. انهض ببلدك.. ساهم في بناءه.. شارك في تنميته, فوطنك أبقى لك.
وإلى أبناء إب خاصة: مدينتكم تأسر الألباب جمالاً طبيعياً أضفوا عليها الجمال الاصطناعي تنمية وبناءً وديناميكية، إب تعشقكم فلم تتنكروا لها، تهيم فيكم فكونوا قريبين منها، تناديكم فلبوا النداء وإياكم أن تتركوها وحيدة فينفرد بها الزمن ويخطفها منا جميعاً.
محمد محروس
مدينة النزوح 1558