كادت شعوب المنطقة العربية أن تصل إلى شفا جرف هار بفعل العديد من المشاكل المتعددة الجوانب ، ولم يكن لها من خيار سوى الاستسلام والرضاء بالمقدور ، والمتأمل بعمق سيجد أن من أبرز الأسباب وراء ما وصلت إليه من وضع خطير هو (غياب الحوار) كقيمة حضارية من شأنها تجاوز ذلك كله والانتقال بها إلى أحسن حال ، والحوار وإن وجد في ظل تلك الظروف العصيبة فعلى مقاس الحاكم المستبد لا بد أن يكون وبالصورة والطريقة التي يريد ويرغب ، لا بل هو عبارة عن مجرد شعار يرفع لدغدغة عواطف الجماهير وامتصاص غضبها ، أضف إلى كونه معلوم النتائج قبل خوض غماره والبدء به ، ولصالح الطرف المتنفذ الذي هو الأنظمة الدكتاتورية في كل قطر عربي ! .. وإذا كان الوضع كذلك فأنى لمهزلة كهذه تحت مسمى الحوار أن تؤتي أكلها وثمارها ؟!.. بالطبع ليس هناك من حلول مجدية سوى إسقاط تلك الأنظمة من عروشها، ومن ثم البدء بخطوات عملية جادة تقوم على أساس الحوار والشراكة السياسية الحقيقية ، ينطلق أصحابها نحو التغيير والإصلاح ، وهذا ما كان بالفعل من خلال ثورات اقتلعت العقبة الكأداء الحائلة بين الشعوب وما تصبو إليه من حياة عزيزة وكريمة.
ولأننا اليوم في بداية عهد جديد نريد له أن تكون أيامه وأعوامه حافلة بالبناء والعطاء في شتى الاتجاهات، ما أجمل أن نعود إلى نقطة البداية التي من شأنها خلق رؤية واضحة للمستقبل المنشود وصياغة حكيمة لسياسات تنفيذها وتحويلها إلى واقع وملموس ، هذه النقطة التي نقصدها وندعوا إليها هي ( الحوار )، فبالحوار والحوار وحده نتجاوز الماضي بكل مآسيه وتراكماته السلبية ، وبه ومن خلاله نصنع اللبنات القويمة والمرتكزات السوية للحياة المستقبلية الأكثر تقدماً ورقياً ونهضة .
الحوار أيها الكرام وسيلة مهمة لابد من اعتبارها في حالة الاتفاق والحياة المستقرة، وهي أهم من ذلك في حالة الافتراق والاختلاف سيما وجميعنا يتفق على أن الاختلاف أمر من الطبيعي حدوثه وما يتطلب معه ليس إلا تضييقه وترشيده ، فلا يخرج عن كونه اختلاف تنوع محمود إلى اختلاف تضاد مذموم يأتي على صاحبه ، ومن في السفينة جميعهم بالغرق والدمار .
إن تضييق الاختلاف الفكري والسياسي المشاهد في أوساط تلك التوجهات أو غيرها لا يمكن أن يكون إلا من خلال "الحوار " الذي يمكن الجميع من الإدلاء بآرائهم بحرية تامة ، ومن ثم مناقشتها للوصول في أقل الأحوال إلى رؤى مشتركة يتفق عليها الجميع، فيعيشون بعد ذلك حالة من الانسجام تمكنهم من القيام بدورهم المناط بهم في الحياة على أحسن حال .
من خلال هذه المعطيات نصل إلى أن " الحوار " خير كله للجميع دون استثناء ، حتى أولئك الذين يتباينون في الأفكار والأيديولوجيات إلى حد كبير يجعل أصحابها يتطلعون الوصول إلى مبتغاهم ، ولو كان على حساب قضايا مصيرية في الأمة.
نقول : " الحوار " هو المنطقة الخصبة التي يجد فيها هؤلاء بغيتهم، فيضعون فيها كل ما يرونه ويعتقدونه .. فقط حتى يتأتى لهم وضع ذلك بحرية تامة ، على الطرف الآخر أن يحترم ما يراه مخالفه من رؤى وتصورات في قضية ما ، ويتعامل معها بموضوعية وتجرد مطلق ، وإلا فلا قيمة لحوار يهيمن فيه طرف على طرف..
هذه هي الثقافة الراقية التي نشيد بها ونؤكد عليها في فن الحوار، فكيف بمن ينأى بنفسه عن الدخول في حوار ما ويرفضه مبدئياً؟! لاجئاً، وبدلاً عن ذلك إلى تحقيق مآربه من خلال وسائل لا مشروعة قد عفى عليها الزمن وأثبت عدم مفعوليتها الأمس ، قبل اليوم الذي تعيش فيه الشعوب حالة من الوعي الرشيد والفهم السوي لكل ما يدار ويحدث... هنا تكمن المشكلة !.
فعلى سبيل المثال : نحن كيمنيين ندرك تماماً أن هناك قضايا عالقة لا يمكن الانطلاق لرسم ملامح اليمن القادم ما لم نعمل سوياً على التخلص منها ومعالجتها معالجة جذرية عادلة من خلال حوار شامل يلتقي فيه كل الأطراف المعنية ، ويمثل فيه كافة أطياف المجتمع وشرائحه وهو هنا ( مؤتمر الحوار الوطني ) المزمع عقده خلال الأيام القادمة .
فما هو الدور الذي ينبغي ؟ .. لا شك أنه التفاعل مع مجرياته واستثماره الاستثمار الأمثل كحدث تاريخي شائك، فيدلي الجميع بما عنده بالطريقة التي يريد والكيفية التي يشاء ، دون أي إملاءات أو هيمنة تذكر ، هذا هو ما يجنح له أصحاب العقول الراجحة والفطر السوية .. فلمصلحة من يرفض أولئك حواراً كهذا ؟ ، وما هو البديل من وجهة نظرهم ؟ ، ثم لماذا هذا التخوف والتوجس من حوار سيقام على مستوى عال من الشفافية والرقابة ؟..
يا أخي من حقك أن تدعو لفك الارتباط فينفصل جنوب اليمن عن شماله ، ومن حق هذا أن يدعو لخيار الفيدرالية ، ومن حق ثالث أن يطرح رؤيته لشكل الدولة اليمنية الحديثة ، لكن ليس من حق جهة ما فرض رأيها على الآخرين ، وكمان قبل الدخول في الحوار الذي من شأنه مناقشة ذلك واختيار ما هو أنسب لمصلحة اليمن عموماً! .. تعالوا فضعوا ما تريدون من تصورات ورؤى على الطاولة ، ولن يضيق منكم أحد ، وما تجنحون إليه، أليس هذه هي الديمقراطية التي تناضلون وتناطحون من أجل الوصول إليها ؟!..
إذا كنا ندرك ضرورة التعايش الإيجابي والاحترام المتبادل فيما بيننا كقوى سياسية وقبل ذلك كيمنيين، من حقنا أن نقول ما نريد دون تأفف أو تخوف من أحد ، فلماذا يختلق البعض لنفسه أوهاماً فيعيش فيها دون أن يكون هناك ما يدعو لتلك الأوهام أصلاً ؟!..
إن مؤتمر الحوار الوطني القادم خير لكل الفرقاء السياسيين لو كانوا يعلمون ، وما لم يدرك الجميع هذه الحقيقة فإن شعبنا اليمني العظيم لا يمكن أن يكون لعبة شطرنج بيد هذا أو ذاك يحركها كيفما شاء ومتى أراد ! وهو من أوصل الجميع إلى هذا المربع .. لقد صنع شعبنا اليمني التغيير ، وفي مقدمته الشباب ، وقدم الغالي والنفيس من أجل الخروج باليمن إلى بر الأمان، فعلى تلك القوى الرافضة أو المهددة بمقاطعة الحوار أو الرامية إلى إفشاله أن لا تكون عامل هدم وحجرة عثرة أمام ما ينشده شعبنا من آمال وطموح ، وأن لا تأخذ البعض منهم العزة بالإثم فينتقم من الشعب ذاته والذي لم يكن له فيما حصل من ظلم هنا أوهناك ناقة أو جمل ! ، وما حدث ليس إلا نتاجاً حتمياً لفعل سياسات خرقاء عاشها واكتوى بنيرانها الجميع في الجنوب كانوا أو الشمال ، الشرق أو الغرب.. وهاهي بداية الانطلاق اليوم تلوح في الأفق معلنة بفجر جديد وحياة واعدة عبر حوار يعيد كل حق تم مصادرته ، فماذا بعد هذا أيها القوم ، وأنا أكن لكم كل الحب والتقدير ، نبئونا بعلم فنسلكه إن كان فيه ما يحقق المراد ويعالج المشكلة.
وأخيراً: على القوى التي ستشارك في المؤتمر التجرد الحقيقي لله ثم للوطن من كل المصالح الشخصية والمطامع الزائلة ، وأن تكون المصالح العليا فوق كل اعتبار ، وأيضاً التنصل من لغة الاستعلاء والتلويح بالهيمنة بأسلوب أو بآخر من قبل فلان أوعلان ، ودخول مؤتمر الحوار كيمنيين بنية صادقة وبقطع النظر عن الأيدلوجيات الفكرية والانتماءات السياسية لهذا أو ذاك، وعلى أيدي الجميع ستحقق الكثير من التطلعات لهذا الشعب ، فلا إصلاح أو مؤتمر ، ولا سلفي أو حوثي ، ولا ناصري أو اشتراكي ولا ... الكل يمنيون ، وبالشراكة الحقيقية ترسى دعائم الحرية والعدل والمواطنة المتساوية ، وهو ما يعني حينئذ وجود دولة مدنية حديثة تحترم القانون وتعلي من شأنه، فيعرف كل فرد في ظلها ماله من حقوق ، وما عليه من واجبات.. نتمنى للجميع التوفيق والسداد.
محمد أمين عز الدين
والحوار خير لهم لو كانوا يعلمون 1816