كم هو صادق من قال إن السياسة لعبة قذرة، تمسخ القيم والذمم، تتسلل إلى براءة الإنسان، ونقاء عقله، وصفاء سريرته، فتلوثه وتمسخه، حيث لا تعرف للأخلاق سبيلا..
وفي المجتمع الذي تزداد الأمية فيه اتساعاَ والتعليم تراجعاَ والصحة تدهوراَ والمستوى المعيشي في الحضيض سيكون الأمر أكثر سوءً وحدة وقتامة وخوفاً..
ثمة ثقافة أخلاقية يتوارثها المرء في مجتمعاتنا العربية في خلق الخصوم ربما مرجع ذلك لتلك السياسة، وثقافة التسلط والظلم والبطش التي مورست خلال عقود من الزمن وخلقت لديه الرغبة في التفريغ والتنفيس بسبب تسلط الحاكم وغياب حرية الرأي وهيمنة مشاعر الألم والقمع والرغبة في الانتقام.
عندما تجد وأنت في غرفة الفصل تلاميذ يتراشقون بألقاب عنصرية ومناطقية وكل يحقر الآخر بسبب ذلك، أدرك إن السياسة الخائبة امتدت إليهم واخترقت عالمهم البريء بعد أن أفسدت الحياة العامة في البيت والشارع من خلال وسائلها المختلفة، حينها ستلعن السياسة التي أنتجت ذلك، ولم تفرق بين البناء والهدم، وتؤسس لجيل بعقول متحجرة وقلوب متصحرة، مستعدين للانقضاض على بعضهم البعض تحت عناوين عنصرية ومناطقية عفا عليها الزمن باستثناء أوطان الخائبين.
لا ادري أي مجتمع تعيس ذاك الذي يخرب عقول أبناءه وأي غد ينتظر، وقد استبدل سايكلوجية الكراهية والانتقام بدلاُ من قيم الحب والتسامح.. حتماً عندما تتفرق الأيادي وتتصادم الرغبات والرؤى وتتسلل أذرع السياسة إلى صفوف التلاميذ وعقولهم تعم الفوضى ويحظر الفشل بصولاته وجولاته ليتوج بلوحة قاتمة بائسة، وهذا ما حصل بالضبط في نهاية العام الدراسي الفائت في هذه المدينة بعد أن هجرها النظام واختل فيها ميزان التربية والتعليم وبدلاً من الاجتهاد والمطالعة والبحث، عمت الفوضى والغش والفشل.
ما من مجتمع ينشد التغيير والتطور وفي نفس الوقت يربي أبنائه بكل ذاك التطرف وعدم قبول الآخر، ويلغم من حيث لا يدري المستقبل ويضع بذوراً لدورات جديدة من العنف والدمار، والثأر والانتقام، هو مجتمع سيظل يعيش على هامش الحياة ومذكرات ( الزمن الجميل ).. لما لا، ونحن بذلك نرسم بألوان سوداوية صورة للغد، ونزرع بذور لمراحل ملتهبة، ونعمق ثقافة كانت ومازالت سبب البلاء والبكاء.
الأمر ببساطة أن أطفال اليوم هم رجال المستقبل، وما نزرعه اليوم نحصده غداً، تلك معادلة يجب أن نتوقف أمامها ونحن ننقل خيباتنا وإخفاقاتنا إليهم حتى لا نسهم في صناعة جيل قادم يعيش جولة أخرى مكرر من الفشل، في مجتمع أرضيته الجهل وأعمدته مثخنة بالحقد ومتخمة بالكراهية تأكل بعضها البعض، وتستمر المأساة ومن نفس الكأس نتجرع جهلاً وخيبة.
حقيقة يفزعني منسوب التطرف والتعصب والمناطقية هذه الأيام واستدعاء بعض ملامح ( الجاهلية ) من كهوف البربر، بأبشع صورها، ونحن في زمن تتفاخر فيه البشرية بأنها على وشك استيطان المريخ..
لذا لم يكن الرجل مبالغاً وهو يتنقل مابين المدارس وفي كل الفعاليات التربوية والتعليمية يردد أمام الحاضرين (لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) إلا لإدراكه بخطورة الوضع، ودرجة الانحدار ونتائج الفشل والتطرف والضياع.
ذلك هو الهم، وتلك هي الجملة التي يرددها (سالم), مدير عام التربية بعدن, في استنهاض قيم تبدلت وقدرات انحسرت وتراجعت وهو يتنقل دون ملل مابين هذه المدرسة وتلك وفي جميع الفعاليات التربوية والتعليمية، يزرع الأمل ويحطم بمعول الإرادة صروح الإهمال وتلال اليأس والفشل، ويرنو إلى غد أفضل ومستقبل ينتصر لهذه المدينة، ويعيد للتربية دورها وللتعليم هدفه ورونقه بنوايا المخلصين قولاً وعملاً، وفاءً وولاءً.
دعوكم الآن من النظام والسلطة والفساد، فالشياطين ليس محل خلاف هنا.. فقط نقول حتى وإن كانت النوايا حسنة، ستظل ناقصة وفي مهب الريح ما لم نستطع إدراك أن التعليم قيمة، وللعلم قدسية، والمدرسة حرم، ونترك أبناءنا في مقاعد الدرس بعيداً عن الصراع والاختلاف والتعبئة، وحشو العقول حقداً وثأراً، ناراً ورماداً، فيما إذا تسللت أذرع السياسة القذرة إلى عقولهم الواعدة، وحماستهم المفرطة، لتعبث بهما على حساب العقل والعلم والمنطق، عندئذ تخيلوا أنتم حجم المأساة ولون المستقبل، وليضرب المعلم بعد ذلك كفاً بكف ويردد كم أنتي قذرة أيتها السياسة، ويغني أيضاً (يا ليل ما أطولك ).
فؤاد عبد القوي مرشد
في غرفة الصف.. 1632