الطفولة الحديثة وجهٌ آخر للتربية الحديثة في الألفية الثالثة ولعل أبرز ما قد يستفزنا فيها هو التهوين الذي يمنحه الآباء والأمهات للأطفال لتخطي مشاكل أطفالهم المعاصرة ، من ضمنها مشكلة التفوه بالألفاظ النابية والتي تعد الأخطر سلوكاً واجتماعياً على تربية الطفل وفكره تحت مبرر أنه لا يفهم معناها فلا تستحق العقاب!.
والحقيقة أنه ربما يشعر الطفل باللذة عندما يتفوه بكلمات ممنوعة مبتذلة, غير أنه لا يفقه كثيراً المعاني الكامنة في هذه الألفاظ سوى كونها تشكل وخزاً وإثارة للمقابل وربما للأبوين..
والطفل في مثل هذه الحالة يتعمد انتهاك الأرض الحرام لأسباب عديدة, فهو يحاول امتحان ردود فعل الأبوين أو الآخر الذي يفوقه سطوة, وهو يريد إثبات وجوده من خلال عرض قدرته على ممارسة هذا الانتهاك .
وتظل مثل هذه التصرفات لمن يأخذها بحكمة وسيلة لإماطة اللثام عن شفرة الدوافع السلوكية عند الطفل , شريطة التصرف معه بلباقة وحذق شديدين لامتصاص أي انحراف مقصود قد يثيره لديه العقاب الصارم.
وعادة ما تبدأ الصرخات الدالة على المعارضة من لدن الطفل حين بلوغه السنتين من عمره ويتلفظ بأول كلمة (لا) تعبيراً عن العناد بعد ذلك بقليل وحين ينفذها فهو يشعر عندها بنشوة انتصار المتمرد ...إنه يريد إفهام المحيطين به رفضه لسطوتهم وقدرته على الإفلات مما تفرضه عليه إرادتهم , إنها أولى إرهاصات توكيد الذات عند الكائن البشري..
وما بين السنتين الثالثة والرابعة يبدأ الطفل عادة بتفوه كلمات نابية التي التقطها من محيطه اللغوي والتي تمثل بلا شك جزءاً من تطوره السيكولوجي وأسلوبه في امتحان طريقة استخدام الكلمات الممنوعة وحدود تصرفات أبويه..
وإذا كان من غير المفيد تحميل الأمر أكثر مما يحتمل في مثل هذه الحالات واتخاذ مواقف جد شديدة ومتشنجة تجاه الطفل , إلا أن ما لا غنى عنه ردعه عن مثل هذا الفعل مع ضرورة تقديم الاعتذار, أما إذا استمر في عوائه وكرر الفعلة مرات أخرى يتوجب بلا تردد معاقبته عقوبة معنوية مثل حرمانه من أشياء يحبها أو إجباره على دفع جزء من مصروفه وعلى الأبوين مراقبة درجة ميل الطفل إلى استخدام نوع معين من الكلمات دون سواها, مع أخد العلم بأنه مجبول على ترديد ما يسمع من كلمات الآخرين.
وهناك جملة من العبارات مثل (ابتعد) أو (لا أحبك) أو (إليك عني) أو لا يمكن اعتبارها من المفردات المجرمة بل نوع من التنفيس اللغوي عن حالة غضب تنتاب الطفل جدير بالأبوين دراستها وبعث روح البحث لديه عن أساليب أخرى أكثر رقياً للتعبير عن الغضب وأساليب لجمه والسيطرة على النفس..
ومثل هذه القدرات النفسية لا يمكن أن تأتي مرة واحدة, بل هي تبني باستمرار تطور الطفل , كما يتوجب حل شفرة العديد من العبارات التي قد لا يقصد الطفل معناها الدقيق, فمثلا كلمة (أكرهك) التي قد لا تعني الكره حصراً بقدر ما تشير إلى حالة تمرد ونزق راجعة أساساً إلى شعور بالإحباط تجاه موقف ما لا أكثر وهي حالة عابرة بكل تأكيد, ذلك أن مشاعر الطفولة ليست قصدية, كما أن أفعاله ليست مصممة مسبقاً لإلحاق الأذى.
ومع ذلك يجدر بالأبوين إفهامه بأن مثل هذه المساحات التعبيرية غير مرغوب فيها وتمس شخصيته قبل أي شيء, كما يستحسن الحديث معه بجدية وبتركيز النظر في عينيه مباشرة لإثبات حضور السلطة الأبوية التي تمر أولاً وقبل كل شيء عبر النظر وقبل أي وسيلة تقريع أو عقوبة.
وما إن تهدأ ثورة الطفل ويذهب غضبه إزاء موقف ما يتعين على الأبوين العودة إلى أس المشكلة والتحدث معها هذه المرة بلطفاً مع التأكيد له أن هذه الكلمات التي نطق بها تعد من هذه التعبيرات الجارحة وأن مثل هذا الفعل يمكن ارتكابه من قبل الجميع ولكنه فعل لا يجدر بأمثاله الإتيان به..
إن من شأن هذا النمط من المعالجة أن يحط من قيمة الكلمات النابية في نظر الطفل وهذا هو الهدف من أي نوع من أفعال التربية والإرشاد ولكن يجدر بالمتحدث من باب آخر أن يكظم غيظه.
أحلام المقالح
التربية في الألفية الثالثة 2118