لم أفهم حتى هذه اللحظة مغزى التحية التي وجهها مجلس الوزراء الثلاثاء الماضي لفعالية جماهيرية حشد لها في عدن التيار الانفصالي بالحراك الجنوبي في ذكرى مجزرة 13 يناير عام 1986م تحت شعار (التصالح والتسامح).. ولم أجد تفسيراً منطقياً واحداً يبرر وصف حكومة الجمهورية اليمنية لتلك الفعالية التي رفعت فيها الآلاف من الأعلام الشطرية والعبارات التي تدعو إلى إسقاط وحدة الشعب بـ (النبراس الذي يهتدى به).. ولا أدري من أي زاوية ومن أي منظور رأى فيه مجلس وزرائنا الموقر أن مثل تلك الفعالية التي تجيش الآف اليمنيين في الجنوب في مواجهة يمنيين آخرين في الشمال بأنها (خطوة على طريق إرساء قيم التسامح والتصالح وتأسيس ثقافة جديدة خالية من الأحقاد والكراهية والإقصاء ).. بل إني لم أجد في كل ما اطلعت عليه في كتب السياسة وعلم الاجتماع ما استدل به على أريحية أصحاب المعالي في حكومة الوفاق وإطنابهم بالثناء على تلك الفعالية التي خرجت تراهن على هزيمة الوحدة وتكرار مأساتنا التاريخية الناتجة عن تفرق أبناء سبأ الذين قالوا كما جاء في القرآن الكريم ( ربنا باعد بين أسفارنا وظلموا أنفسهم.. فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور)..
كما لم أفقه بإمكانياتي الذهنية المتواضعة أيضاً كيف اهتدت حكومتنا الرشيدة بأن فعالية كتلك تشطر المجتمع إلى نصفين على أساس جهوي ومناطقي وتؤجج بينهم البغضاء والضغائن والعداوات بأنها تأتي في إطار التعبير عن الرأي, مع انه ليس من شروط الديمقراطية أو حرية الرأي والتعبير أن تجزأ الأوطان وتفتت وحدة الشعوب وتتشظى كياناتها.. وأي ديمقراطية تدعو إلى ذلك هي ديمقراطية مذمومة وملعونة, لكونها تزويراً فاضحاً لمعنى وحقيقة الديمقراطية وجوهرها الأصيل.
لقد وقع حملة شعار (التصالح والتسامح) في تناقض صارخ حينما رفعوا مطلباً أساسياً للشعب اليمني كله من المهرة إلى صعدة, في حين أن ما قاموا به كان عملاً يستهدف بدرجة أساسية وحدة هذا الشعب وسلمه الاجتماعي, وهذا الأسلوب المخادع ليس جديداً على هؤلاء, فقد استغلوا الاحتجاجات المطلبية لجمعية المتقاعدين لتمرير أهدافهم الانفصالية وكانت أولى مراحل المسار الذي سلكه الحراك الجنوبي كافية لكشف الدوافع الحقيقية غير المعلنة لحملة أراد أصحابها إيهام الرأي العام الداخلي والخارجي بأنها تأتي للتعبير عن رفض إحدى مكونات الشعب اليمني للطابع الإقصائي تارة والاضطهاد والتهميش تارة أخرى.
ولم يتأخر مفجرو هذا الحراك عن إذكاء المناطقية المقيتة (جنوبي-شمالي) بهدف إيجاد نوع من الانفصال النفسي بين أبناء الشعب الواحد تمهيداً لخلخلة الوئام الاجتماعي والاستقرار الأمني.. وقد أسهمت الخلافات بين الأحزاب السياسية في تمكين العناصر الانفصالية من خلط الأوراق واللجوء إلى أعمال الشغب واستهداف السكينة العامة للمواطنين عبر مهاجمة المرافق العامة والمحلات التجارية وحتى بعض المنازل الخصوصية وأحياناً المارة, ليتطور الأمر إلى قطع الطرقات ورفع علم التشطير وسفك دماء المواطنين بـ (الهوية ) وإحراق السيارات ونهب ممتلكات أبناء الشمال في إطار خطة لتهجيرهم من المحافظات الجنوبية وخلال عدة أشهر, فقد كانت الأضرار الناجمة عن أعمال العنف والسلب والنهب أشبه بما يمكن أن ينجم عن كارثة طبيعية.
وعلى الرغم من الصمت الحكومي والشعبي فقد ظهر جلياً ومن الوهلة الأولى أن أيادٍ خفية هي من تدير هذا الخراب وتعمل على إلحاق الأذى بالبلد والشعب, متخفية وراء مطالب لا تطرح بحجم محدد وإنما بصيغة شاملة من نوع أن كل أراضي الجنوب منهوبة من أبناء الشمال وأن التعديات والمظالم مفروضة على جهة محددة ومحظورة على أبناء الجهة الأخرى.. ومع أن أحداً لا ينكر انه قد حصلت أخطاء كثيرة في الجنوب وأن هناك أراضٍ قد نهبت ومظالم وظيفية قد جرت وفساداً مالياً وإدارياً قد حدث, ولكن في المقابل فمن غير الممكن الإنكار أيضاً أن تلك التعديات قد استخدمت كذرائع لمخطط انفصالي خبيث يعرف الجميع خلفياته ودوافعه وأبعاده.
وعليه فإذا كانت مهرجانات التصالح والتسامح تهدف إلى معالجة آثار ما عرف بصراعات حقبة التشطير وتداعياتها, فما ذنب الوحدة التي يساء إليها في هذه المهرجانات التي كان الغرض منها أساساً هو مداواة سلسلة مركبة ومتداخلة من المظالم الاجتماعية والسياسية التي أفرزتها أحداث مجزرة 13 يناير المشئومة وكذا القرارات الاشتراكية التي خلقت الكثير من الحزازات بين الآلاف من أبناء الشعب اليمني في المحافظات الجنوبية, فإلغاء النشاط التجاري ونزع ملكية الآف العقارات السكنية والآلاف الأخرى من قطع الأراضي الزراعية من مالكيها وتأميمها وتسليمها لأشخاص آخرين لا حق لهم فيها ولا مسوغ شرعي لذلك, بالإضافة إلى سلسلة أخرى من الممارسات الظالمة والممنهجة التي أدت إلى تشريد الآلاف من المواطنين إلى خارج اليمن..
ولذلك نقول لمن يلعبون بنيران الفتنة: ألم يكفكم ماعاناه هذا الوطن من الماسي والصراعات والخلافات والانقسامات؟ ألم يكفكم كل تلك الدماء التي سفكت قبل الوحدة وبعدها؟ أم أنكم تريدون أن ينتحر هذا الشعب من أجل الوحدة وعليها؟ لأن ذلك هو من سيشبع نزواتكم وشهواتكم ونهمكم في التسلط وحب المال الحرام.. فاتقوا الله في هذا الشعب, فإن لم يكن لديكم وطنية فليكن لديكم أخلاق وإن لم يكن لديكم أخلاق فليكن لديكم ضمير وإن لم يكن لديكم ضمير فليكن لديكم دين وإن لم يكن لديكم دين فماذا تبقى لكم من القيم والأعراف لكي نخاطبكم بها؟.
علي ناجي الرعوي
مهرجانات ل التصالح والتسامح.. أم لقهر الوحدة؟! 2696