مات أبوه في الذكرى الواحدة والثلاثين لاعتقاله، مات يونس والحسرة تملأ قلبه على فراق ابنه كريم، مات العجوز يونس فضل يونس دون أن يودع بأصابع يديه وجه ابنه الأسير، مات وفي قلبه غصة، لأن ابنه لن يشارك في تلك اللحظة التي يتوارى فيها جثمانه تحت التراب، مات يونس دون أن يزحزح صخرة الظلم التي جثمت على صدره ثلاثين عاماً، انتظر خلالها انكسار الحزن، والإفراج عن ولده كريم، ليتوقف عن عد الأيام والليالي التي يعيشها ولده خلف الأسوار، ولكن دون جدوى، فقد تبخر الزمن الذي حلم فيه بزفاف ولده إلى عروسه، وانقضى الرجاء بأن يلعب أحفاده بين يديه، فجاءه الأجل ولما يزل يكره الصهاينة الذين اغتصبوا الأرض الفلسطينية قبل أن يصادروا عمر ابنه الأسير كريم يونس.
وللحزن خلف الأسوار مذاق النعناع، وله رائحة شاي الصباح، حزن يختلط فيه ربيع قرية عارة الفلسطينية المغتصبة مع صدأ القضبان، حزن كريم يونس على فراق أبيه كان صامتاً كالسجن، وكان بطيئاً كحركة الأيام، وكان ثقيلاً بحجم المسافة الفاصلة بين عدد الأسرى في الصباح وإغلاق السجن في المساء، وكان الحزن طويل القامة، عملاقاً يتسلق أسوار السجن، يتنقل بين الزنزانة وبيت العزاء، وبين حسرة الفراق على مدار ثلاثين عاماً، وشهقة الفراق الأبدي على هذه الأرض التي تحاصرها الأطماع الصهيونية.
كريم يونس أقدم أسير فلسطيني في السجون الإسرائيلية، عجزت الثورة الفلسطينية عن تحريره من سجون إسرائيل، وقصّرت السلطة الفلسطينية عن تحريره من الأسر، لذلك أصبغنا عليه الألقاب التي تفضح ضعفنا، وتكشف تخاذلنا، وبدل أن نعيب مشوارنا السياسي، وننتقد نهجنا التفاوضي، قفزنا في الهواء، وأطلقنا عليه لقب عميد الأسرى الفلسطينيين والعرب.
فهل يحق لنا أن نفتخر ونفرح بأننا نترك أسرانا أكثر من ثلاثين عاماً في السجون؟ هل يحق لنا أن نتباهى بين الأمم بعدد أسرانا الذين يمضون عشرات السنين من أعمارهم خلف أسوار السجن؟ هل صرف الرواتب للأسرى خلف الأسوار جاء بديلاً عن تحريرهم من الأسر؟
إن كل الألقاب والمسميات التي نصبغها على الأسرى لا تعادل لحظة حرية، وإن كل الأموال التي تقدمها السلطة لأهالي الأسرى لا تعادل لحظة كرامة، وإذا نجحت السلطة الفلسطينية في إشغال الناس عن تحرير كل فلسطين بالدرجات الوظيفية، والتعيينات، والترقيات، ومن ثم تأخر صرف الرواتب، فمن العار أن يصير توزيع الألقاب والدرجات الوظيفية والرواتب الشهرية على الأسرى بديلاً من كسر الأقفال وتحريرهم.
د. فايز أبو شمالة
ومات أبوه ..... 1673