تعز، بلادٌ لها من الحظ السيئ نصيب ، بل وربما استأثرت بالنصيب أجمع ، قد يكون حظاً سيئاً ، وقد يكون عملاً متعمداً ، قد يكون وقد يكون ، لكن ما يهمنا أن الحظ السيئ هو (الماركة) الحصرية التي تميز هذه الحالمة التي لم تفق من نومها ولم تصحُ من أحلامها بعد ! ..
ومن يتابع خفايا ما يحدث لتعز يدرك حجم المأساة التي تحيط بها منذ زمن ، حيث لا تندلع ثورة إلا وتعز هي (شرارتها) الأولى ، ولكنها تبقى وحدها تكتوي بنار تلك الثورة سواءً نجحت أم فشلت – أي الثورة – فتظل المعاناة سيماً ظاهرة على وجه هذه المدينة البائسة (المساكين) أهلها ! ..
تعز هي غالباً من تصنع المقدمات ، ولكن غيرها يستفيدون من النتائج ، هي من تغرس شجرة الثورة وتتعب عليها كثيراً ، وغيرها يحصدون الثمر ، هي من تُسقط الطغاة من على كراسيهم ، وغير أهلها هم من يصعدون على تلك الكراسي ويتشبثون بها ، وأولى قراراتهم تكون بالتأكيد استثناء تعز من هامش الحياة الممنوح لما سواها !..
تعز في المعاناة هي الأولى ، وفي الراحة والعيش الرغيد هي الأخيرة ، تتصدر الركب حين يتعلق الأمر بالتضحية والبذل والعطاء ودفع الثمن ، وعندما يتعلق الأمر بالأخذ والاستفادة وحصد الجهد تتذيل الترتيب بامتياز ، ترتقي إلى أعلى درجات (السُلم) حين يتطلب الأمر مواجهةً وبأساً وقوة ، وعندما تنفرج الأمور تسقط – أو يسقطها البعض بالأصح – حتى لا تستطيع النهوض ولا تقوى على الحراك !..
حتى على مستوى الثورة الشبابية الشعبية ، كانت تعز هي الأكثر معاناة ، والأشد مظلومية ، وكان ما يدور في ديارها هو الأكثر رعباً ، والأشد تخويفاً ، والأقسى عذاباً وتنكيلاً ، فلم تسقط نساءٌ كشهيدات إلا في تعز ، وأغلب شهداء الثورة بأكملها كانوا من تعز ، وأشد حصار حدث في تعز ، وأقسى ممارسات استفزازية وقعت في تعز ، وقصف المستشفيات والمدارس والمنازل والمساجد على حد سواء لم يحدث إلا في تعز ، وإحراق البشر أحياء ، وممارسة جرائم مناطقية مفزعة ، وجلب كل المجرمين إليها ، والدوس على المصاحف وتدنيس المساجد ، لم يحدث كل هذا إلا في تعز ، في تعز فقط غرقت الإنسانية في بحر متلاطم من العار اللا متناهي ، بينما ظل القتلة في مناصبهم يضحكون ، يقهقهون ، وبأهلها يستهزءون ، وتعز تندب حظها وتلطم خدها وعلامات الاستفهام ترتسم على محياها وهي تقول : أيها الثورة .. هل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟! ..
منذ زمن بعيدٍ وسياسة (التوهيم) هي المتبعة مع تعز ، حيث يباع الوهم لأهلها في كل مناسبة واحتفال وزيارة ووضع حجر أساس ، وترسم الإنجازات والمشاريع بفرشاة سحرية على مختلف بقاعها ، فإذا ما بَطُلَ السحر وانتهت الحفلة انكشف الأمر عن كومة خراب اسمها.. تعز ، ومن فرط خوف أبناء تعز من سياسة (التوهيم) أصبحوا يخافون أن يكون محافظهم الذي يجلس على كرسيه منذ أكثر من عامٍ مالئاً أسماعهم بالوعود, مجرد (وهمٍ) لا أكثر ، خاصة عندما يرون الفرق الشاسع والبون الواسع بين الأقوال والأفعال !
لا زالت المدينة تمتلئ بالضجيج الناجم عن أصوات الرصاص ، ولا زال الأمن مفقوداً ، ولا زال القتلى يتساقطون في كل ناحية وصوب ، كل هذا لأن حمل السلاح ما زال يهيمن على الحياة (التعزية) ، رغم أن السلاح شيء دخيل على أبناء عاصمة الثقافة الذين كان سلاحهم الوحيد هو (القلم) حتى جاء المخربون والمرجفون وبائعوا (الوهم) والكلام المعسول إلى المدينة..!
ورغم أن تعز تفِق من نومها كل صباح لتحاول الحلم بيومٍ أفضل ، إلا أن ما يحدث لها كفيلٌ بأن (يُطيَّر) عقلها ويجعل أهلها يصابون بالجنون (من شِق ومن طرف) .. فتعز تفيق وعلى رأسها (مشيخة) تحاول أن تتخلص منها مناطق المشائخ أنفسهم ، فما بالك بمنطقة المدنية والثقافة ، تصحو ومحافظها لا يقوى على الحراك ، ولا يستطيع (تغيير) أي منكر ، كمنكر مدير عام الكهرباء الذي يتشبث به شوقي بقوة تدفعنا للتساؤل عن السر في هذا التشبث الكبير رغم ثبوت فساده وإفساده!..
تعز أصبحت كتلة خراب ، وألم ، وسراب ، وكرفتات أنيقة ، و(دِباب) ماء تنتظر دورها في الطابور، وغضبٍ مستشرٍ ، ووجعٍ متصاعد ، وصبرٍ يكاد ينفذ ، وشبابٍ يتظاهر (عائداً) إلى التغيير، وحمقٍ يستمر في عناده ، وسيارات (حبة وربع) تمر بكبرياء لتدهس كرامة الجميع ، وأطرافٍ نعرفها تقهقه بأعلى صوتها وهي تضحك بخبثٍ شديد : لن ننسى ما فعلتيه بنا يا تعز!..
لا زالت (رَحِمُ) هذه المدينة حبلى بالكثير من (الآمال) رغم وجود أضعافها من (الآلام) ، لكن المولود لم يأتِ بعد رغم طول الانتظار ، هي ليست عقيماً ولكن هناك من يعمل على ذلك ، انتظرت طويلاً ، صبرت ، كبرت ، قدمت ، وأعطت ، وبذلت ، حزنت ثم حزنت ثم حزنت ، حتى ابيضت عيناها من الحزن ، لكن ذاك الرداء (المنتظر) الذي سيعيد لها (النظر) لم يأتِ بعد ، ولا زالت حتى الآن غير قادرة على أن تشتم رائحةً زكية في ظل روائح القمامة والمجاري والبارود ، فهذا الثلاثي هو ما يفقدها حاسة الشم ، بل ويفقدها حتى (طعم) الحياة الجميل!..
تعز تعود للتغيير ، رغم أنها لم تفارقه أصلاً ، ولكنها كانت تعطيهم الفرصة تلو الأخرى ليثبتوا حسن نواياهم ، ولكن – حتى الآن – لم يصل إلينا شيء من النوايا الحسنة ، كل ما نراه هو سيء ، سيء بحجم السوء ذاته ، بل وأشد وأنكى وأقسى وأوسخ وألعن! ..
تعز تنتظر تآزراً من جميع من فيها ، تنتظر عملاً يعيد لها الألق الذي كان عندما كانت عزائم وهمم أبناءها متوحدة ، تنتظر حباً يجمع الجميع ، تنتظر وداً ورحمة وتسامحاً يلملم شتات القلوب ، ويجمع فُرقة الأرواح ، ويحول تعز إلى كومة حب ، وعمل ، ونهضة ، وارتقاء لا ينتهي ، وصعود لا يتوقف !.
طارق فؤاد البنا
تعز..كومة خرابٍ وشوقي! 1994