نحاول أن نقنع أنفسنا أحياناً بأنا على قدر من المعرفة والقدرة على إدارة كل الأحداث والمتغيرات الواقعة علينا، والحقيقة التي تظهر على واقعنا أن كل ما حدث ويحدث في الوقت الراهن قد أفقدنا السيطرة على كثير من الأمور الهامة ، فانفلتت من بين أيدينا وبتنا نتفرج على نتائجها التي شاركنا – حقيقة - في صناعتها حتى أصبحنا نشكل جزءاً من تلك الصنيعة..
نعرف أن المستقبل لا يُرى، ولكنه متوقع بحسب الخطة التي رسمناها ودقة تنفيذنا لها لنصل إلى النهاية المتوقعة والتي نسميها(المستقبل).. ولكن إذا ما مضينا في طريق الحياة دون خطة مدروسة جيداً فبالتأكيد سيكون مستقبلنا مجهولاً عنا، وربما نرفضه، فلابد من رسم خطة لنسير عليها حتى نصل إلى الغاية المنشودة وحتى لا نُفاجأ بنتائج نهاية الطريق كما تفاجئنا بواقعنا وبما آلت إليه أنفسنا ومجتمعنا الآن .
إن المجتمعات المتقدمة لم تصل إلى ما وصلت إليه من نجاحات وتقدم مصادفة أو عبر لعبة اليانصيب، بل كانت هناك عقول مفكرة وإرادة وتصميم قوي على تنفيذ ما نتجت عنه تلك الأفكار من خطط بهدف الوصول إلى الحلم ليصبح حقيقة تعاش ويتفاخر بها صانعوها، مع علمنا وقناعتنا التامة بأن من فكر وخطط ونفّذ لم ينعم غالبيتهم بتلك النجاحات, فقد واراهم الثرى قبل أن يرى حلمهم النور، وعلى يقين أيضاً بأن من تنعم بذلك النور هم الأجيال التالية التي ورثت عنهم الحلم والخطة فمضوا إلى الأمام.
لا عجب إذاً عندما نرى أولادنا من العقدين السابقين وأتوقع من العقد القادم أيضاً وهم ينضوون تحت ظلال الفتنة والغفلة واللهث خلف بقايا التطور الذي يُرمى بها العالم الثالث من العالم المتقدم من ملابس وفنون وأفكار قد تعبوا منها وتخلوا عنها.. فكيف تنهار الأخلاق ولا نقم بفعل شيء حيال إنقاذها من الانجراف نحو الهاوية، وإذا ما تحققنا من واقع مجتمعنا العربي سنجد أن العائلة هي السبب الرئيسي في انحدار أخلاق أبناءهم، فالعائلة التي لم تضع خطة لأبنائها في تربيتهم والتركيز على بناء أخلاقهم وشخصيتهم في سنواتهم الأولى تعتبر المسائل الأول للحالة التي وصلت إليها أخلاق أبناءهم من انحدار، فأولئك الأبناء يشكلون الجيل الذي ينتج جيلاً آخر بنفس الأخلاق أو أدنى بكثير، فيبدأ الانحدار بتجربة جريئة حتى تصبح عادة وقد ترتقي إلى فعل الإبداع والتطوير وربما تنتهي " بعقيدة " يتوارثها الأبناء جيلاً بعد جيل ..
ففي الماضي القريب كنا نعد الأبناء نوعين ( ابن الناس ) و( ابن الشارع ), فمن صفات ( ابن الناس ) الأدب في الكلام والحرص على تطبيق آداب الأكل وخصوصاً أمام الآخرين، طريقة المشي والمحافظة على التعاملات الأدبية مع الآخرين وأشياء أخرى عديدة، إضافة إلى الالتزام الديني الذي يغلف تلك الشخصية بغلاف يسمى (ابن الناس ) بينما ابن الشارع, ولا اقصد بهذا الوصف الطفل المتشرد, بل اقصد ذاك الابن الذي ينسدل من عائلة محترمة ولكنه لا يحسن الكلام ولا التصرف ولا يعامل الآخرين بتلك الأخلاق المتوقعة من شخص في مثل سنه ومكانة عائلته الأخلاقية، هنا نطلق عليه – تشبيهاً – ( ابن الشارع ) أي المتشرد الذي لا عائلة له تعلمه وتؤدبه .
وفي الواقع الذي وجدنا أنفسنا فيه لم نعد نفرق بين ابن الناس وابن الشارع, فقد أصبح كثير منهم سواء في الأخلاق وحتى في الشكل والمظهر، و بتنا نرى كثيراً من العائلات المحترمة تهمل تربية أبناءها، فنرى غالبيتهم " يطردون " أبناءهم من المنازل في الساعة الثالثة في موعد أصبح شبه متفق عليه بين الأطفال، لا يعرف الطفل موعداً للرجوع إلا بعد صلاة العشاء أو بعدها بساعتين .
العائلة هي العنصر الأساسي في بناء مجتمع واع متعلم متطلع نحو المستقبل, فهي كالشمس التي تملأ الأرض بنورها وأشعتها، والتشرد والانحدار الأخلاقي كالذبابة التي تقتات على القاذورات وتشدها للعيش فيها.. فان أردنا رفعة في الدنيا وحضارة نباهي بها الأمم وتاريخاً نفخر وتفخر به الأجيال القادمة, فعلينا بالعائلة، فمتى انتهت العائلة فلن نجد مجتمعاً إنسانياً, بل سنجد حيوانات بشرية في برية، فإن أردنا أن نرتقي بمجتمعنا علينا ألاّ نترك للذبابة مكاناً أبداً حتى لا تغلب بقذارتها أشعة الشمس .
أماني شريح
ابن الناس وابن الشارع 1770