أدرك النظام الإمامي التاريخي أن الحل الأمثل لاستمراره في حُكم الشعب هو عزله عن مُحيطه وتَحريم كُل وسائل الاتصال به على المستوى الإقليمي والدولي وعلى المستوى البيني الاجتماعي وإذا اقتضت الضرورة والمصلحة التجارية أو غيرها من المصالح الطارئة ولوجَ أحدٍ ما إلى اليمن من خارجها فبإذنٍ خاص من الإمام على أن يُرافقه حرسٌ خاص أيضاً من الإمام ويضلُّ هذا الدخيل في ضيافة الإمام وتحت رقابته الذاتية..حتى يقضي مصلحتُه المحددة مُسبقاً ويغادر بعد ذلك السجن الكبير المُسمَّى اليمن!..ورفض الإمام يحيى إقامة أي علاقات دبلوماسية على أي مستوى كان إلا ما ندر وبصورةٍ استثنائية وبحسب مقتضيات الحال فأصبحت اليمن بذلك في عُزلةٍ رهيبة متقوقعةً على نفسها وفي نفس الوقت عَمل الإمام جاهداً على تكريس منع التواصل الاجتماعي البيني بِحرمانه الشعب من حقِّه في شق الطرقات وإقامة المشاريع الاعتيادية التي كانت تناسب ذلك العصر قد تُسهل عملية التنقُّل والتواصل الاجتماعي وبذلك أصبح الوصول إلى صنعاء أو الحديدة أو غيرهما من المُدن قصةً أسطوريه يجتمعُ عليها الناس ليسمعوا عن ذلك العَالم الذي رآه القاص!..
أما أداء فريضة الحج فخرافة في حـد ذاتها وخرافة أيضاً إن وصل أحدهُم إلى الكعبة أو إن عاد منها حياً!
كُل ذلك الحرمان بداعي خوفه على اليمن من التأثُر بالتوجه الفكري العالمي الذي كان يتعارض مع طبيعة منهَجه الإسلامي ذي الرؤى الهادوية وعلى ذات السياق أقفل كُل منافذ العلم الممكنة التي كانت سائدة في عصره وقصَّرها شكلياً على المساجد وموضوعياً في العلوم العقائدية المحصورة، منهجياً على الأفكار الهادويه..مُبتعداً عن العلوم الخاضعةِ للعقل والتَّجربة البشرية التي لا تربطُها من وجهة نظره علاقةٌ بالعلوم العقائدية.. وبالجملة بـثَّ فيهم ثقافة البحث عن سُبل البقاء على قيد الحياة والمحافظة على نسلهم النوعي وربط ذلك برضى الإمام عنهُم!.
إنَّ هذه المنهجية وهذه التوطئة على المستوى الاجتماعي جَعلت الشعب مُغيَّباً عن واقعه وعن الدُّنيا لا يدري ما يجري فيها..وكَل ما كان يعنيهم اجتماعياً هو كيف يرضَى الإمام عنهُم؟! وعلى المُستوى الشَّخصي يُتابعون باهتمام بالغ القَصص المروية عن الإمام ومعجزاته والخوارق التي تجري على يديه! وربط الشَّعب مصيره وجوداً وعدماً بالإمام, فكُل المُعطيات والمَعلومات محدودةً لديه بعد أن تمَّ عزله إلا عن تلكَ المَعلومات التي يُريدها أن تصل إليه الإمام! غيـَر أنَّهُ يجب التدوين هاهُنا وهو بيت القصيد أنَّ النظام الإمامي لم يُطبِّق هذه النظرية في الحُكم على المستوى العشائري المُرتبط به سلالياً أو قبلياً فهؤلاء كانواْ يتلقَّون أرقى العلوم الممكنة ويحتكَّون بالمُحيط الإقليمي والدولي..فقد كانواْ أهل ثقة أو على أقلِّ تقدير..من باب "الأقربون أولى بالمعروف" فكان ـ هؤلاء تقريباً ـ جهابذة الإمام ومنابر العلم عند الشعب وكان يُطلق على بعضهم مُصطلح اجتماعي مازال موجوداً إلى اليوم أعني مُصطلح "هجره" هُم المعلمون وهم الأئمة الذين يُقيمون للناس صلواتهم ويعقدون زيجاتهم ويقبضون الزكوات ولا يجوز المساس بهم أو تعريض حياتهم للخطر أو مُنازعتهم، فهذه كُلها مُحرمات اجتماعيه وأخلاقيه غرسها الإمام في المُحيط الاجتماعي حُباً لعشيرته وخوفاً عليهم كُل ذلك بعد أن قام بإعادة توزيعهم وهيكلتهم اجتماعياً على جُغرافية اليمن.
المُهم أن الإمام برغم كُل سلبياته كان يراعي الجانب الأسري والعشائري ويستثنيه من عمومية العزل التي فرضها على الشعب..وإذا كانت المُحرمات درجات مُتفاوتة في نسبية الحرام فيها فإن عدم مراعاة الجوانب الإنسانية لذوي القُربى المُرتكزة على رصيد الفطرة هو أبشع المُحرمات الاجتماعية على الإطلاق.
ولعلَّني ألتمسُ أن عدم زجَّ الإمام بقرابته في جحيم الجهل والحرمان أمرٌ فطري وليس عقلياً يستقيم مع الوضعية الإنسانية السوية التي تُشكِّل حالة في اللاوعي تكبحُ جِماح الجنون السياسي المُطلق الذي قد يخدشُ رصيد الفطرة التكويني!..لكنَّ الغريب أن هذه الحالة لم تكُن حاضرةً لدى زعيم النظام الجمهوري السابق فرغم أنَّه قد تقمَّص وفعَّل نظرية الأئمة في نظامه السياسي برغم جمهوريته إلا أن الإيجابية السلوكية الوحيدة الفطرية التي طبقها الأئمة - والتي تمَثَّلت في أنسنة علاقاتهم بأقربائهم- لم يُفعَّلها الزعيم بل تجاوزها وتعداها حتى وصل الحال به إلى تعمُّده إهانة أقربائه وعشيرته, لـم يرحمهُم ولم يصلهُم ولم يكُف أذاه عنهُم ورفض أبُوَّتهُم وأخُوَّتهُم واستبقى لـودِّه من كُل مُحيطه الاجتماعي والأسري أولاده وأولاد أخيه ومن دار في فلكهم وفعل بعد ذلك في سنحان الأفاعيل، جَهَّلهُم عمداً وحرمهم من حقهم في التعليم وحرمهُم من الحياة الكريمة وحرمهم حتى من أبسط الحقوق التي كانت متاحة لغيرهم وكآن المتاح الوحيد المُمكن لهُم أن يكونواْ جنوداً لا غير!.. بل وصلَ به الحـد ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ أن سمح لبعض الفـِرق الهندسية أن تفجر حوض وادي "الأجبار"المائي المخزون بباطن الأرض لتصبح الآبار بعد هذا التفجير غوراً ويصيبُ الناس العطش قبل الزرع ويجفُّ الضَرع ويموت مفهوم الزراعة في قلوب الناس إلا من بعض شجيرات القات! وترك معظم أهل الوادي أرضهم ليقفواْ طوابير على أبواب المُعسكرات طلباً للحياة.
والأدهى من ذلك والأمـرَّ أنهُ جعل سنحان دائرة مُقفلةً عليه وحده لا يسمحُ لأحدٍ بدخولها أو يُصلح من شأنها وأذِنَ فقط لبعض الأفكار والرواد المُرتبطين بالتيار الشيعي بدخولها وزرع أفكارهم فيها وكان هذا الحصر والقصر بداعي الصمـود والإغلاق أمام التيار الإصلاحي أو أي تيار آخر قد يؤثر على سياسة تجهيـل سنحان المُمنهج!وبذلك عُزلتْ عن مُحيطها الاجتماعي وحُرمتْ من حقها في المعرفة والثقافة المعتدلة وبنفس مسوغات الإمام في عزل اليمن لتعيش "سنحان" ـ وفقاً لهذه الرؤية ـ في زمنٍ آخر غير زمنها والغريب في الأمر أن هذا العزل كان أشبه وأقرب ما يكون بعزل "صعدة" أيضاً عن مُحيطها، فلقد كانت شبه مُغلقه عن مُحيطها الاجتماعي وأدَّعي أن غالبية أبناء اليمن لم يكن يدري عن ما فيها من خيرات وكأنها جوهرةٌ مَخفية عن البقية، متقوقعةً على نفسها وعلى ما فيها من أفكار مبتورةً عن الطريق السَّوي حتى استطاع الحوثيون أن يُطوعوها قسراً لصالحهم فهل توافقها المنهجي مع سنحان في العزل مقصودٌ لذاته؟! أم أنَّهُ مقصودٌ لغيره؟!أم أنها النهايةُ البعيدة المضمرة لجغرافية الجهل المستهدفة كحصنٍ للعهود السياسية الآيلة للسقوط؟!
وعودا على ذي بدء أقول لقد طبَّق الزعيم نفس منهجية الأمام في حُكم اليمن مع تعديل مرحلي طفيف اقتضتهُ الضرورات الإنسانية والأنماط الحديثة للتنظيم المدني للحياة ليتماشى مع طبيعة متغيرات العصر..لكنَّهُ لم يكُن كالإمام في التعامُل الراقي مع أهله وذويه وأقربائه، فلقد كان مغايراً له تماماً..جاحداً لعشيرته!.. ولكنِّي كُنت أتساءل لماذا هذا الجحود والنكران ؟!لماذا التعذيب الإنساني والاجتماعي المُمنهج!.. ماذا فعلت به عشيرته؟! لم تكُن سنحان تطلُب من ابنها العاق لها أكثر من أن يدعها وشأنها تعيش كبقية الخلق في أرضها ومحيطها!.. لم تطلُب منه أكثر من حقِّها في العيش بآدمية! لكن حتى هذه الأمنية حرَّمها عليهم لماذا!! لم أدرك الإجابة..إلا حين وجدتها ماثلة أمام عيني فقد رأيتُ إخوتي وأبناء عمومتي من أبناء سنحان وبني بهلول في بدايات الثورة الشبابية وهم يقفون أمام "مُعسكر الفرقة" يرقصون وهم يحملون صور زعيمهم ويريدون الدخول عنوةً إن اقتضى الأمر للمُعسكر بداعي الصُّلح بين "اللواء/علي محسن" و زعيمهم.! كانوا يضحكون وتبدو على مُحيَّاهم سمة البراءة المصحوبة بكُل معاني الحرمان البادية في قَسمات وجوههم! لم يكونواْ يدركونَ أن الذي أرسلهم دسَّ بينهم فِرق الموت وأنهم لم يكونواْ أكثر من قُدَّاس وقرابين "هُلوكـست للرَّب" وفقاً لإرادة الرَّب الذي قرَّر أن يكون مُحيط "الفرقة" مَذبحاً لهُم..ويا للسخرية مذبحةٌ في مَذبح!..!أدركتُ حينها أنَّ "سنحان" في ذهن الزعيم ما هي إلا مشروع داجن طويل الأجل محتواه مجموعةً من البشر..هُم إخوته وأبناء عُمومته!..هيأهُم فقط أو هكذا بدا كَـ قرابين له يُقدمهم في يوم قُدَّاسٍ أشر على مسرح الحياة السياسي متى شاء فما جدوى تعليمهم أو تركهِم يعيشون حياةً إنسانيه!..
والمأساة أن قرابته هذه لن تُدرك ما فعله بها إلا بعد فترةٍ زمنيةً طويلة حين يسرِدُ التاريخ قصَّتهم معهُ!..وما معنى أن يظلم الإنسان أخاه الإنسان بعد أن يُعطِّل عَقلهُ ويجعلهُ قُرباناً يسوقهُ للذَّبح متى عَطش الرَّبُ للدَّم! وأفتاه الكُهَّان بأنه التِّرياق الأكيد لتجنُّب غضب الشعب واستعطافهم! وهل بعد دَم القرابين الأخوية من قرابين..؟!
ورغم أن هذه الجريمة لم تتم كما كان مُخططاً لها إلا أنَّهُ مازال يُصرُّ على تقديم قربانه الذي نـذره! ولن يرجع عن نذرٍه هذا فقُدَّاس "مَذبح" الفاشل لن يتكررَّ هذه المرة!.. فها هو اليوم يسوق "سنحان" إلى قداس آخر في "صعدة" هذه المرة!..إنَّهُ العالم الجديد الذي شارك في صُنعه..بعد أن فقد كُل حُلفائه السياسيين ولم يعُد لديه إلا الحوثيين يؤونهُ وينصرونه!..! ولكنَّهُم لن يقبلوه إلا بقُربانٍ تأكله النَّار من "سنحان" قبيلتهُ البائسة القَريبة من قُرَّة العين "صنعاء" المغتصبة!..وهي خيرُ قُربانٍ لمحو ذنوب "سبعة حروب" أحرقت الأخضر واليابس!..
واستجاب الزعيم..وذهبت القرابين من "سنحان" إلى "صعده" وتعانقت مع بقية القرابين هناك في مشهدٍ تراجيديٍ حَزين!..وتساؤل بعض الخبثاء هل قبل ربُّ صعدة قرابين الزعيم ولن يدخُل الجحيم؟!وهل بعد قرابينه لم يعد حبيب "أميركا" وأصبح عدوها العظيم ؟!نعم.."سنحان" في صعدة تتلقَّى العلم في أرقى جامعاتها وأكثرها تقدُّماً وحضارة!.. ولذلك ما جدوى أن يبعث الزعيم أبناء سنحان على حسابه الشخصي المُكدَّس في كُل بنوك العالم للدراسة في أوروبا وأميركا تكفيراً عن ما مضى ؟! ففي "صعدة" مُنتهى العلم والعلماء وما قد يُنفقه عليهم في بلاد الكفر والزندقة سيُنفقه عليهم وهم يقتلون" أميركا"وعلى علاجهم حين تجرحُهم أميركا وعلى أسرهِم حين يصبحون شهداء ببنادق وطائرات أميركا!.. الموت لأمريكا وللعالم كله!.. ذاك هو العلم وهل بعد هذا العلم من علم!..! فقد اكتشف "الزعيم" وهو في حالة تجلَّي روحاني وشفافية غير متناهية أن خير ما يُكافئ به قومه ويكفِّر به ذنبه وهو يودع الحياة السياسية أن يُخرجهم من سنحان المظلمة ويرحَّلهم إلى "صعدة النور" ويُرحِّل أبناءه في نفس الوقت إلى روما وبيروت حيثُ الجهل والتخلُّف!..
إنه يجلدُ ذاته حُزناً على سنحان وحزناً على صعدة!.. يا لعذابات الزعيم المسكين..لكنَّ جُلَّ ما أخشاه أنهُ وهو يبني توبته النصوح..أن يصنع لليمن "هولوكوست" لا نظير لها في التاريخ! بدايتها في قُـم ونهايتها في صعدة و سنحان الأم!..سلمتَ يا وطني من أنفاس نَيرون التي تُحلِّق فوق الشُّعوب بعد غروب الشمس وقبل الشـروق!..
د/ عبدالله الحاضري
الهولوكوست!.. 2009