سوف آخذك عزيزي القارئ اليوم في رحلة عبر خط الزمن .. استعد جيداً وشد أربطة أحزمتك بإتقان, فالرحلة ليست بتلك السهولة التي قد تتخيلها,واجتهد أثناء اقتحامنا لحواجز المكان واختراقنا لدوائر الزمان وتجاوزنا لجميع نظريات الميتافيزيقيا على إرهاف حواسك,سمعك,بصرك, وتلك العين الثالثة الممتدة على حيز جسدك والتي تستشعر بها دبيب النملة ولدغة البعوضة,ومداعبة ريشة نعام فاخرة.. ربما أنك قرأت أو سمعت عن المعالجة بخط الزمن!.. بالتأكيد لن نناقش جدوى هذه الوسيلة في تنظيف أدمغتنا من الفيروسات والملفات المزعجة ,التي تقفز في أحيان كثيرة إلى حيز شعورنا دونما استئذان لتفسد علينا متعة الحياة, وهي قد تفعل ذلك حتى في أكثر لحظات العمر إبهاجاً فتغدو كقطرة خل صبت في كوب من الحليب فأفسدته أو كبقعة حبر سوداء انتشرت على ورقة بيضاء فلوثتها أو كإخطبوط ضخم يصر على معانقتك!!.. آووه لابد أنك بدأت تشعر بالدوار. هون عليك فالرحلة لم تبدأ بعد.. إن ما سنفعله هو أجدى من كل ذلك فلننطلق..
نتائج البحوث الإنسانية والواقع يؤكدان على أن لكل منا خريطته الزمنية والتي تسيطر على شعوره وتفرض عليه اختياراته وتملي عليه إراداته بوعي أو بدون وعي ,فهو يحب ويكره ويقترب ويبتعد ويقبل ويرفض ما يوافق هذه الخريطة , وهذا ما أسميته بالوجدانية الزمنية.
هل تعرف شخصاً يعيش منجذباً للماضي, فكلما هو قديم فهو أصيل وجميل وأثير لديه,يحب حارته القديمة التي كانت تكتظ على جوانبها النفايات وتتعارك عليها القطط الشاردة والكلاب الضالة ,ويعشق رائحة الخبز المحروق الذي كان يخرج جله متفحماً من تنور أمه القديم, .حتى إنه يتمنى أن يتزوج امرأة تشبه أمه تماماً.يحب السمر تحت ضوء القمر مع تمايل ذبالة الغاز برائحته الخانقة...
وأما إن كان صاحبنا سوداوي التفكير, مكتئب النفس, فهو سيعيش كذلك في الماضي ولكن مع المطاردة المرعبة له من كلاب الحي في الصباح الباكر ومع لدغات البعوض في أمسيات الصيف الحارة والرعب الذي يعصف بفؤاده في ليالي الشتاء عندما يعزف الكون بصفير الرياح ومواء القطط وفحيح الأفاعي وصرير الحشرات سيمفونية الرعب الخالدة! وسيتذكر مراراً كيف أن أمه كانت تعذبه بإصرارها على إطعامه ذلك الخبز المحروق والذي لم يستسغه قط وكانت تفضل أخته الصغرى عليه وكان أخوه الأكبر يضربه دوماً وبقسوة ودونما سبب...يا له من بائس مسكين!..
حتى متى سيبقى مأسوراً هناك؟.
وربما أن لك صديقاً آخر يعيش في حيز المستقبل ,فهو يسرد عليك كلما اجتمعت به خطوات مشاريعه المستقبلية المذهلة..وربما لو أسعفك الحظ وتمكنت من التقليب بين أوراقه الخاصة لوجدته قد خط مخططاً عبقرياً لقصره الفاره والذي سيشيده مستقبلاً في أرقى أحياء المدينة أو ربما في منطقة ريفية الكترونية سيتم إنشاؤها كما يحلم ضمن مخطط الدولة المثالية القادمة,فهو يعيش ليبني غداً مشرقاً على أرضية خياله الواسع ,يهدمه الليل عندما يسدل ستاره بعد كل غروب للشمس وصاحبنا بالتأكيد لا يزعجه ذلك قط, فغداً سيشيد بدلاً عنه ما هو أروع منه!!..
وتمر الأيام والاثنان يعيشان خارج الزمان, الأول غارق في ماضيه والثاني سابح في غده ولم يدرك أحدهما أنه لا يقترب قيد أنملة من حاضره!!..
وأخيراً: ثمة شخص ثالث( قد يكون أنت ), يعيش الحاضر بجميع تفاصيله ,يتقن فن اقتناص اللحظة الراهنة ,ولكن انتبه فقد يكون على طرفي نقيض.. فهو إن كان شخصاً جاداً منجزاً فستراه يقفز من إنجاز لآخر ,ومن فن لآخر ,ومن مجال لآخر يبحث عن متعة التغيير والتجدد والتنوع, لا يلتفت للماضي ليتعلم من أخطائه,حتى لو كان هذا الماضي الأمس القريب!, فالماضي شيء ثقيل على وجدانه وكئيب وهو لا يحبذ استرجاعه, بل يرمي كل شيء خلفه ويمضي محلقاً في عالم اللحظة, وهو أيضاً لا يضيع وقته في التخطيط للمستقبل, فالمستقبل البعيد شيء غير موجود وغير ملحوظ في حيز وجدانه.. ستراه يحقق نجاحات في مجالات متعددة ولكنها مبتورة, مبتسرة, قصيرة المدى..بكل بساطة هو في العادة شخصية ملولة.
وأما إن كان صاحبنا هذا شخصاً لعوباً غير مسئول, فأنت بالتأكيد ستعرف أين تجده: في ملعب, ملهى, شات, معاكسات, ماخور... وأخيراً في قسم الشرطة...
آووه لنسترح قليلاً ونأخذ نفساً عميقاً, فالرحلة كانت مدهشة ومرهقة.. والآن أنت أمام المهمة الأصعب بعد هذا العرض المثير!..
عليك أن تعرف من أنت بين هؤلاء؟ وفي أي دائرة من دوائر الزمن يعيش وجدانك؟.. لا تتخيل كم ستتغير حياتك وتنضبط إراداتك بعدما تكتشف وبدقة خريطة وجدانك الزمنية.
نبيلة الوليدي
هل أنت خارج الزمن؟! 1990