إنَّ تشريعَ أيّ شعب مسلم ذي مرجعيَّة إسلاميَّة لذاته تشريعات تنظم حياته وتُفيده وتُسعده لا يُعَدّ شركًاً بالله أو كفرًا به!؛ لأنه مجرَّد تفصيل لشرع الله الذي شرَعَه لخلقه! بما يناسب زمان أو مكان أو ثقافة أو عرف أو عادة هذا الشعب، وليس أبدًا بديلاً عن هذا الشرع التامّ العظيم المُسْعِد لِمَن يعمل به أو حتى مساواة له!!
إنما الشرك والكفر والخطأ والخطر والشقاء في الداريْن يكون حينما يحدث التعدِّي والخروج على حدود هذا الشرع أو رفضه أو التغيير في قواعده وأخلاقه وثوابته العامة أو نحو ذلك مما يُعتبَر رفضًا له أو استهانة واستخفافًا به أو استكبارًا عليه أو ظنًا مُخطِئًا بأنَّ غيرَه خيرٌ منه.
يقول الإمام الشنقيطي في تفسيره "أضواء البيان" عند شرحه لقوله تعالي: ".. وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا" (الكهف: 26)..
خلِص الحُكم لله من شوائب شِرْك غيره في الحكم....... اعلم أن التفصيل بين النظام قسمان: إداريّ وشرعيّ، أمَّا الإداريّ الذي يُراد به ضبط الأمور وإتقانها على وجه ٍغير مخالِف للشرع، فهذا لا مانع منه، ولا مُخالِف فيه من الصحابة فمَن بعدهم..... كتنظيم شئون الموظفين وتنظيم إدارة الأعمال، فهذا النوع من الأنظمة الوضعية لا بأس به ولا يخرج عن قواعد الشرع من مراعاة المصالح العامة، وأمَّا النظام المخالِف لتشريع خالق السماوات والأرض وتحكيمه فهو كفر بخالق السماوات والأرض، كدعوى أنَّ تفضيل الذكر على الأنثى في الميراث ليس بإنصاف ٍوأنهما يلزم استواءهما في الميراث، وكدعوي أنَّ تعدّد الزوجات ظلم، فتحكيم هذا النوع من النظام, تمرّد على نظام السماء الذي وضعه مَن خلقَ الخلائق كلها وهو أعلم بمصالحها سبحانه.."
إنَّ حقّ الناس في التشريع لأنفسهم هو أحد المفاهيم البدهية الأصيلة والتي لا تحتاج لكثير أدلة ٍلمعني الاستخلاف في الأرض! إذ كيف يكون البشر خلفاء عن ربهم سبحانه ولا يُشرّعون لذواتهم تفاصيل ما شرَعَه لهم مُجمَلاً صاحب الكون الأصيل خالقهم ليُناسِب ويُسعِد مُتغيّرات حياتهم اليومية المتعدّدة؟!
يقول الإمام ابن عجيبة في "البحر المديد" مؤكدًا ذلك ضمنًا عند شرحه لقوله تعالي: " هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ" (فاطر: 39): "أي جعلكم خلفاء عنه في التصرّف في الأرض، قد َمّلككم مقاليد التصرّف فيها، وسلطكم على ما فيها، وأباحَ لكم منافعها، لتشكروه بالطاعة.."، ثم إنَّ التشريع لتنظيم الحياة هو أمرٌ فِطريّ! فكلّ بشر ٍمجتمعين متعايشين هم مفطورون مُحِبّون للنظام وللتشاور في كيفية وضعه وتطبيقه لتحقيق راحتهم وسعادتهم!
يقول الإمام ابن عاشور في تفسيره "التحرير والتنوير" ما يُفهَم منه هذا عند شرحه لقوله تعالي: ".. وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ.." (آل عمران: 159): "....... هذا، والشورى مِمَّا جَبَلَ الله عليه الإنسان في فطرته السليمة، أي فطرَه على مَحَبَّة الصلاح وطلب النجاح في المساعي، ولذلك قرَنَ الله تعالي خلق أصل البشر بالتشاور في شأنه إذ قال للملائكة ".. إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً.." (البقرة: 30) إذ قد غنى الله عن إعانة المخلوقات في الرأي ولكنه عَرَضَ على الملائكة مراده ليكون التشاور سُنَّة في البشر ضرورة أنه مقترن بتكوينه.."
ثم أهم ما يميّز الإنسان عن بقية الكائنات هو الكرامة " وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ" (الإسراء: 70)، والحرية المُنضبطة "لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ" (البقرة: 256) التي لا تضرّ النفس والغير كما يُقال: أنت حُرّ ٌما لم تضرّ.. وأعظم ما يحفظ هذه الميزات والصفات أن يحكم الآدميون أنفسهم بأنفسهم! ... ما داموا داخل اُلأطر الإلهيَّة الأخلاقية الإسلامية الإنسانية العامة المعروفة والتي شرعها لهم خالقهم لتنظيم حياتهم على أكمل وأهنأ حال ليطمئنوا ويهنئوا.
ثم السماح للمسلمين بالتشريع هو التطبيق العمليّ المباشِر لقوله تعالي " وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ" (الشورى: 38)، ومنعه هو تعطيل للآية الكريمة!، جاء في تفسير "القطان" ما يُفيد ذلك ضمنًا: "وهذا دستور عظيم في الإسلام، فهو يوجب أن يكون الحُكم مبنيًّا على التشاور، وقد كان النبي- صلى الله عليه وسلم- يشاور أصحابه الكرام في كثيرٍ من الأمور، وكان الصحابة الكرام يتشاورون فيما بينهم.."، ويُضيف الإمام الآلوسي في تفسيره: "...والشوري.. مِن جملة صلاح الأرض..".
وكذلك هو التطبيق العمليّ المباشر لقوله- صلى الله عليه وسلم-: "أنتم أعلم بأمر دنياكم" (جزء من حديث رواه مسلم )، ولقوله تعالى: "وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ" (التوبة: 122)، والذي قال فيه الإمام السعدي في تفسيره: " وفي هذه الآية أيضًا دليل وإرشاد وتنبيه لطيف، لفائدة مهمة وهي أنَّ المسلمين ينبغي لهم أن يعدّوا لكل مصلحة من مصالحهم العامة مَن يقوم بها ويوفر وقته عليها ويجتهد فيها ولا يلتفت إلى غيرها لتقوم مصالحهم وتتمّ منافعهم..".
ثم كلّ الآيات والأحاديث التي فيها نصح الأمّة لذاتها ولِحُكامَّها ولمسئوليها مثل قوله تعالى: " وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ" (آل عمران: 104)، وقوله (صلى الله عليه وسلم): "الدين النصيحة" قلنا لمن يا رسول الله؟ قال: "لله ولكتابه ولرسوله ولأئمّة المسلمين وعامّتهم" (رواه مسلم)، تفيد ضمنًا أنَّ الأمّة هي التي أعطتهم هذا التوكيل بإدارة شئونها من خلال انتخاب القويّ الأمين المتخصّص الكفء ذي اليد النظيفة منهم؛ حيث من المستحيل أن يدير الجميع جميعهم فهي بالتالي صاحبة الحقّ الأصيل في أن تطلب منهم التشريعات التي تريدها وتفيدها وتسعدها وهي أيضًا صاحبة الحق الوحيد في أن تعاونهم وتراقبهم وتحاسبهم من أجل الوصول للأفضل والأسْعَد.
وهذا هو الذي يُفهَم من قوله (صلى الله عليه وسلم): "إذا خرَجَ ثلاثة ٌفي سفر فليُؤَمِّروا أحدهم" (رواه أبو داود)، والذي شرَحَه الإمام الشوكاني في "نيْل الأوطار" بقوله: "... لأنَّ في ذلك السلامة من الخلاف الذي يؤدي إلى التلاف، فمع عدم التأمير يستبدّ كل واحد برأيه ويفعل ما يطابق هواه فيهلكون، ومع التأمير يقلّ الاختلاف وتجتمع الكلمة، وإذا شُرعَ هذا لثلاثة ٍيكونون في فلاة من الأرض أو يسافرون فشرعيته لعدد أكثر يسكنون القرى والأمصار ويحتاجون لدفع التظالم وفصْل التخاصم أوْلى وأحرَى، وفي ذلك دليل لقول مَن قال: إنه يجب على المسلمين َنصْب الأئمة والولاة والحكام.."، وهو ما يحدث الآن في صورة انتخابات عامة لمؤسسات ٍتشريعية أو تنفيذية أو قضائية أو نقابية أو فئوية أو تعاونية أو غيرها.
هذا، وجَعْلُ الإسلام مصدر السلطات والتشريعات للشعب وليس لفرد واحد هو الحاكم أو المسئول مهما بلغ عقله وعلمه وخبرته وحكمته وتقواه، ولا معصوم من البشر إلا الرسل، هو منعٌ بكل تأكيد لتحويل أحد إلى إله فرعون يقول للناس: ".. مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ" (غافر: 29)!!.. وذلك حتماً يؤدي بالأمّة إلى التعاون والرقيّ والتطوّر والإيجابيّة.. والسعادة.
يقول الأستاذ سيد قطب في "الظلال" عند تفسيره للآية الكريمة: "إنني لا أقول لكم إلا ما أراه صوابًا وأعتقده نافعًا وإنه لهُوَ الصواب والرشد بلا شك ولا جدال! وهل يَرَى الطغاة إلا الرشد والخير والصواب؟! وهل يسمحون بأن يظنّ أحد أنهم قد يخطئون؟!
هل يجوز لأحد أن يرى إلى جوار رأيهم رأيًا؟! وإلا فلِمَ كانوا طغاة؟!".
ولقد كان هذا هو المُتَّبَع مع مَن كان يُوحَى إليه ولم ينطق عن الهوى أفضل الخلق رسول الله (صلى الله عليه وسلم)!! وأيضًا مع مَن تبعه مِن صحابته الكرام بَعده!.. لقد كانوا جميعًا يحثوّن على ذلك فيما اشتُهر عنهم في سِيرتهم قولهم: "إن أحسنتُ فأعينوني، وإن أسأتُ فقوِّموني".
فكن أيها الداعي إلى الله والإسلام مِمَّن يُحسِنون فهم وتطبيق أنَّ الأمّة هي مصدر السلطات والتشريعات، ومِمَّن يُحسنون دعوة غيرهم لمثل هذا.. لتسعد ويَسعدون.. في الدنيا والآخرة.
د. محمد منصور
الشعب هو مصدر السلطات والتشريعات 1739