من المؤكد أن الشعب المصري في مجمله يؤمن أن الإسلام هو عقيدته، وأن غير المسلمين يؤمنون أيضًا أن الإسلام هو ثقافتهم وحضارتهم دون أن ينتقص ذلك من عقيدتهم شيئًا، بيد أن الأقليات العلمانية التي تضم الناصريين والشيوعيين والليبراليين وأشباههم، ويلحق بهم الفلول الذين أفادوا من النظام السابق، لا ترضى بالإسلام منهجًا أو ثقافة أو حضارة، لأنه يتصادم مع ثقافتها ومصالحها، وما معركة الدستور الراهنة إلا نموذج حي على عدم الرضا الذي يقود إلى حالة من الإرهاب العلماني غير مسبوقة، وحالة من الانقلاب على الديمقراطية غير مقبولة. تصور كيف تكون الحال حين تقرأ لمن يقول: "كل ما أراه من أحداث أمامي يزيدني يقينًا، بأن مصر... في طريقها إلى حرب الشوارع ووقوفها على أعتاب حرب أهلية، بين الإخوان المسلمين والسلفيين من جهة، وبين باقي كل قوى الشعب.."، والسؤال هو: لماذا حرب الشوارع والحرب الأهلية بين الإسلاميين والعلمانيين من ناحية وباقي قوى الشعب من ناحية أخرى؟، ولماذا لا نقبل بنتائج الصندوق؟
يوم خرجت مليونية العلمانيين "للثورة شعب يحميها"، وظن أصحابها أن الشعب كله يؤيدهم، فوجئوا بمليونية الشرعية والشريعة تقلب حساباتهم رأسًا على عقب، وتؤكد لهم أن الشعب بما فيه غير المسلمين لن يساوموا على هويتهم الإسلامية، ولن يبيعوا الإسلام لصالح من يخافون على ضحايا الهولوكست أكثر مما يخافون على الشعب الفلسطيني، أو الذين يرون الصندوق الانتخابي خديعة لا تصلح للفصل في إقرار الدستور، أو من يحبون موسيقى البوب، ويرفضون موسيقى سيد درويش. في مليونية الشرعية والشريعة لم يحدث اشتباك أو معارك أو حرب أهلية مع أن هذه المليونية كانت باعتراف المراقبين الأجانب قبل العرب أضعاف المليونية العلمانية.
يبشرنا بعضهم من خلال اللغة الدموية أن الإخوان والسلفيين سوف يتلقون ضربة لا يتمناها لهم،لأنهم- من وجهة نظره- قد فرضوا على باقي الشعب، خيارين، إما الركوع والسجود لهم والقبول بديكتاتوريتهم الدينية، وإما استخدام الأسلوب الذي يفهمونه وهو العنف، وإني أسأل: لماذا لا نرى خيارًا آخر نحتكم جميعًا إليه وهو الشعب أو الصندوق ونقبل بنتائجه مثل بقية المتحضرين في العالم بدلاً من الخيار الدموي الذي أذهب بشاب من الإخوان كان يدافع عن مقر جماعته في دمنهور؟ لماذا لا نتنافس على أرض الواقع لخدمة الناس-ولو بالزيت والسكر- لنقنعهم أن يصوتوا لنا ويمنحونا الأغلبية لنحكم ونقرر؟ ثم ما هي حكاية الركوع والسجود للإخوان والديكتاتورية الدينية هذه؟ هل الملايين التي خرجت في مظاهرة الشرعية والشرعية تسجد للإخوان دون رب الإخوان؟ لقد وصف الإرهاب العلماني الرئيس المسلم المنتخب بكل ما يحمله قاموس البذاءة والفحش من ألفاظ، فهل كان الإرهابيون العلمانيون يستطيعون التلفظ بواحد منها لو كانت هناك ديكتاتورية أو كان في الإخوان هتلر ونيرون وفرعون كما يزعمون؟
إنهم يطالبون بعزل الرئيس المنتخب واعتزاله العمل السياسي، وتفكيك تحالف الإخوان مع الجماعات الإسلامية والسلفية، والتحالف مع ما يُسمَّى القوى والأحزاب المدنية، ليكون ذلك المخرج الوحيد من أزمة الدستور وغيرها. عزل الرئيس المسلم إذا هو الحل، وهو الهدف الذي يعمل من أجله العلمانيون منذ نجاح الرئيس في الانتخابات، فهم لم يمكنوه من ممارسة دوره لأنهم لا يريدون رئيسًا يعلن عن إسلامه ويؤدي صلاة الفجر في المسجد، ويتقاضي أربعين ألف جنيه فقط؛ بينما يتقاضى عضو في هيئة قضائية عليا مليونين من الجنيهات. سبق ذلك نجاح العلمانيين في حل مجلس الشعب، والجمعية التأسيسية الأولى للدستور، وإصرارهم على حل الجمعية التأسيسية الثانية، ومجلس الشورى، والوصول إلى حكم بتزوير انتخابات الرئاسة، وإسقاط الدولة، وإعادة حكم العسكر!
إني لا أعجب من هذا المنطق، فلو كان الفائز هو المرشح الآخر، لما استطاع العلمانيون أن يتفوهوا بكلمة، لأنه كان سيعيد سيرة أتاتورك حين جعل المشانق كالأراجيح في ميادين المدن التركية، وكان سيعيد أيضًا الأمن إلى البلاد في يومين، كما أعلن على رءوس الأشهاد عشية فرز النتائج، فضلاً عن كونه لا يصلي الفجر في المسجد!
إن القوم يتحدثون عن ضرورة التوافق لصياغة دستور يحظى بالإجماع، والتوافق أكذوبة كبرى، لأنهم يتناسون في غمرة هذا الزعم أن الإجماع مستحيل، والأقرب إلى المنطق أن يكون هناك اتفاق يحظي برضا الأغلبية، وهو منهج الشورى الذي يسميه الناس بالديمقراطية، وهو ما ساد أعمال الجمعية التأسيسية حتى قرب اختتام صياغة المسودة. ثم إن التوافق الذي يرضي الأغلبية يحتاج إلى حوار والحوار يعني التفاهم، والتفاهم يعني لغة خالية من الأشواك والمسامير والمفرقعات، ولكن هل يمكن التفاوض أو التحاور مع أقليات تصر على تحقيق مطالبها أولاً، وتريد فرض وصايتها وإرادتها على الأغلبية الساحقة وتسعى لعزل الرئيس ونزع الهوية الإسلامية عن الدولة؟ هل يمكن الحوار مع القوم وقد التقت بهم آن باترسون سفيرة الولايات المتحدة في اجتماع مغلق بمقر حزب الوفد لم يتسرب عن مضمونه كلمة واحدة؟ هل يمكن الحوار مع من انسحب من الجمعية التأسيسية بعد لقائه مع الملياردير الصهيوني "رامي ليفني" صاحب أكبر محلات تجارية بفلسطين المحتلة داخل بيت التاجر الفلسطيني منيب المصري، وقد أنجزت الجمعية أكثر من تسعين بالمائة من مواد الدستور في وجوده؟ هل يمكن الحوار مع من التقى بشخصيات دينية نافذة ترفض المسودة علانية وتراها- كما تزعم- تؤسس لدولة دينية ؟ هل يمكن الحوار مع من جندوا إعلام غسيل الأموال والإعلام الطائفي واخترقوا إعلام الدولة ليشهروا بالإسلام والرئيس والتيار الإسلامي وسلاحهم الكذب والبهتان وتزييف الحقائق؟
إن القوم يتناسون أن مصر ما زالت في قبضة البيروقراطية الموالية للنظام السابق؛ حيث تتحكم في مفاصل الدولة، ومع ذلك يصدعون رءوسنا بحكم الإخوان والحكم الديني والديكتاتورية، وهم يعلمون جيدًا أن هذه الديكتاتورية لا تستطيع أن تتصدى لسفيه من سفهاء الصحافة الصفراء أو صحافة الفلول!
شعب مصر الطيب لن يخوض حرب شوارع، ولن ينزلق إلى سفك الدماء، وسيصوت لدستور حرّم الديكتاتورية، ونزع من صلاحيات الرئيس أكثر من 50%، وجعل إصدار الصحف بمجرد الإخطار.
بئس الإرهاب العلماني.. وبئس التوافق المستحيل!
إخوان أون لاين
د. حلمي محمد القاعود
الإرهاب العلماني.. وأكذوبة التوافق! 1693