ما زالت الشعوب العربية ترزح تحت نير الاستعمار و الاحتلال (الاستدمار) غربياً كان أو عربياً وسواء كان محلياً داخلياً أم أجنبياً خارجياً.. فالعبرة بالمضمون و المعنى لا باللفظ و المبنى.
فالاستعمار هو الاستعمار و لو أدعى الوطنية و القومية و العروبة و التحرر و الإسلام إذا كانت مجرد دعاوى يخالفها الواقع و شعارات تكذبها الممارسات , وقد خاب أمل الشعوب الثائرة بكل شرف و بسالة على المستعمر الأجنبي ..فإذا البديل عن الاستعمار فلوله و عملاؤه بل هم الاستعمار نفسه و بعينه, (خرج المستعمر الأشقر وجاء المستعمر الأسمر) على حد تعبير أحد الظرفاء السودانيين.. بل كان المستعمر الأسمر أشر وأضر وأمر وأخطر ( إنهم كانوا هم أظلم و أطغى) ..فلا هم بنوا أنظمتهم على الشريعة الإسلامية ولا الشرعية الجماهيرية و لم يقيموا وزناً للحقوق والحريات العامة والمبادئ الإنسانية والديمقراطية ولا قامت دولتهم على النظام والقانون والمؤسساتية ..
وبينما العلمانية الغربية الحريرية تفصل الدين عن السياسة و الدولة, إذ بالعلمانية الوحشية الحديدية العربية تفصل الدين و تقصي المتدينين عنهما و عن واقع الحياة ومواقع التأثير, متذرعة بالحكمة الفرعونية (إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد) فكانوا أظهر من الأجنبي في القمع و الفساد و الاستبداد (ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد).
وفي حال أن الأجنبي على ظلمه كان يراعي بعض الحقوق والحريات , لم يعرف المحلي ثقافة الحوار و الخلاف و القبول بالآخر، بل يعادي العلماء الأحرار والمعارضة الناصحة حتى صنع جماهير هي (أغلبية صامتة) و الساكت عن الحق شيطان أخرس ..أو أقلية فكرية و إعلامية هي شياطين بالباطل ناطقة تشيد بمنجزات الحاكم الثوري البطل الفذ الفرد الرمز الضرورة .. و تذكر بمنجزاته (الوهمية) و تهتف و تصفق و تسبح بحمده (مالنا إلا علي) و حسني و القذافي و بن علي و (الأسد و إلا نحرق البلد).
و في حال أن الأجنبي أنشأ المباني و المواني و استخرج النفط و الغاز و رصف الطرقات .. فقد هدم المحلي و قضى على كل جميل و استبقى كل قبيح ..حتى رأينا آباءنا يتحسرون و يترحمون على أيام المستعمر الأجنبي البغيض و حكم الإمامة الاستعماري الغاشم ..مرددين قول الشاعر : رب يــــوم بكيـــت منه فلمــــا صـــرت إلى غيره بكــيت عليه و المستجير بعمرو عند كربته كالمستجير من الرمضاء بالنار
و تأمل فضائع الأنظمة العربية بعد ثوراتها على الأجنبي في بلاد مصر و الشام و غيرهما و في اليمن شماله و جنوبه , طُرد السلال و الأرياني و اغتيال الغشمي و الحمدي و سالمين، فضائع الجبهة القومية بجبهة التحرير و بالسلاطين و حرب يناير 1986 و 1994 .. هكذا فعل رفاق السلاح و الكفاح ببعضهم و بشعوبهم و لم يتركوا السلطة إلا بعد مثل مجزرة الكرامة و محرقة تعز .. يؤججون بؤر الصراع و يدعمون أطراف النزاع و يثيرون الفوضى و الفتن و يعقدون مؤامراتهم في الظلام و على الخراب .
و في سبيل سعيهم الدؤوب للاستحواذ على السلطة والثروة والثأر لكرامتهم – كما يزعمون - ينتقمون من شعوبهم و يهددون بإدخال البلاد في أتون حروب أهلية مفتوحة .. وصدق الشاعر البردوني حين قال في قصيدته (الغزو من الداخل ) : فضيع جــهل ما يجـــــري ** و أفضـــــع منه أن تدري ألا تدريــن يا صنـــــــعاء ** من المستعمر الســـــري؟ غــــزاة لا نشــــــــاهدهم ** وسيف الغزو في صــدري يمانيـــــــــون في المنـفى ** و منفيـــون في اليمـــــــن جنوبيــــــــون في صنعاء ** شماليـــــون في عـــــــدن خطى أكتـــــــــوبر انقلبت ** حــــــزيرانيـــة الكفــــــــن ترقى البيـــــع في ثمــــن ** إلى بيـــــع بلا ثمـــــــــــن ومن مستعمــــر غــــازي ** إلى مستعـــــمر وطـــــــني
ومن خطورة هذا المستعمر السري الوطني أنه يعمل عمل المنافقين، فهو يكمن من حيث المأمن ويتآمر من داخلة البيت و يسر و يظهر مالا يعلن و يبطن ( هم العدو فاحذرهم... ) و كونه كما قال صلى الله عليه و سلم في الصحيح من حديث حذيفة : (هم من جلدتنا و يتكلمون بألسنتنا)، فقد تتقبله الشعوب نفسياً و عصبية و عنصرية و تصدق شعاراته الجذابة الكذابة مالا تقبل الأجنبي و لو كان شراً منه و أطغى.. مما تضعف معه دوافع الثورة و التغيير ..و ما زالت الشعوب تبتلى بفلول و عملاء الاستعمار يتخذون من جثثهم جسوراً يعبرون بها إلى تحقيق مآربهم الخبيثة .
إنها دعوة لأن تواصل الشعوب ثوراتها المباركة و تستكمل أهدافها المشروعة و ترفض كل مستعمر داخلي أو خارجي شمالي أو جنوبي و شرقي أو غربي..و أن يسهم الجميع بدوره في عملية البناء و التنمية و بداية الطريق بتصحيح الوعي بحقيقة الاستعمار.
اللهم من أراد بلادنا و بلاد المسلمين بسوء فأشغله في نفسه و رد كيده إلى نحره و أجعل تدبيره تدميره يا سميع الدعاء.
الشيخ/ عمار بن ناشر
حقيقة الاستعمار 2728