في القلب نبضٌ, بقايا نبض خلفته الذاكرة, غيمة تتهجى الأفق في عين زهرة تدّخر في جبينها بعضاً من ذاكرة البرق, مطرٌ ينبت من ورق السنديانة المقدسة ويغسلها, برزخٌ يجمع في يديه أوراق عمري المتساقطة إيذاناً بقرب انتصاف القدوم.
لا.. لست أبحث عن محال في يد الغيم أو بين موجات الهزيم, آثرت أن امضي إلي.. إلى ركامي.. إلى ضياعي.. إلى ما لا تعلمون.. علِّ امارس طقوسي التي كانت..!
يا أنت.. يا كل الحروف.. يا عزف احزاني ولحن مواجعي: خذ بيد النهار, وارسم بريشة الشفق المسافر خطاياهم وهم, وتلك النزوة الثكلى, أصلب على صارية الغروب ظل الغيمة الأنثى ونهدتها, صلِّ صلاة الخوف وأقم لأجل الروح قدّاس الأمل.
ما زلت أحدثني وسط فوضى الصمت.. وقد آنست ناراً تتدحرج عند حافة التل, كان دبيب العتمة يسري نحو الافق بخطوات متباعدة والنسيم يركض خلفه ملتفتٌ الى مصدر الشهب مسعورة الشرر, زهرة الليلك ترتدي زي غجريةٍ وتبتلع الهواء بجنون.. النسيم ترك وجهته الأولى ويمم نحو اللهب.., النجوم تهاجر من سمائنا لاهثة وراء اللامستقر.., العتمة تلعق بقايا الضوء.., ومضة نارية لمست مداركي وانطفأت.. أحسست برغبة لمجاراة النسيم العبور على صراط اللحظة غير أنني حين وقفت على مرمى نفس من مصدر اللهب أدركت ألاّ سماء هنا ولا شهب, لعل ثمة كائن بشري يحاول ـ عبثاً ـ التدرب على رماية المنجنيق فيرمي به صخرة بالقرب, مازلت غير متأكد من ذلك.., رفيقي طلب مني البقاء عند جذع النخلة المواربة للحدث وعرج منفرداً الى الأعلى.
توقف.. ثم التفت إلي.. قلت في خاطري لعله سيطلب مني اللحاق به.. كنت أشتهي ذلك.. غير أنه خاطبني بهمس:
" ... لا تقتفي أثري.. يجب أن تقتفي خطى الثورة باستماته كبيرة حتى تدركها "
بقيت أهز جذع النخلة التي غلفها الجليد وارمق معراجه بتوجس وقلق, حاول نعاسٌ خجول مداعبة مقلتيَّ فتساقط برد رمادي اوقظهما, بدأت أنظر هناك, في الجهة المقابلة, لأرى فراغاً تأكله الريح, أنفاس زهرة الليلك تمور في الأفق.., مصباح باهت يُضيء.., فتاة تقف على شرفة القصر المنيف تتأمل اللاشيء وتتكئ على كومٍ من الأوجاع والنسيم يقف على مقربة من رمشيها, مازلت مذهولاً أُحدِّق.., فيما اللحظة تبسط نفسها أمامي بعري صادق, مد النسيم يده لمصافحتها.. فأدارت وجهها عنه.., ثم أعادت النظر إليه.. وبصوت ممزق سالته:
من هذا الذي يهديني قشعريرة المواساة..؟
ـ أنا.
ـ من أنت.. لا أراك..؟
ـ تشعرين بوجودي.!
ـ أشعر.. لكنني لا أراك, كلما أراه ضياعي وتطفلك علي في هذه الساعة المتقدمة من الوجع.
ـ هوني على خديك كل هذا الاكتئاب.. أنا نسيم الليل.. جئتك من أقاصي الافق أتهجى مسامات تفاؤلك باليقظة.
ـ وهل تعنيني اليقظة إن كانت تتجاهل كثيرين تحتاجها ضمائرهم وتذكر التعساء امثالي لتذكرهم بما صنعه الآخرون بأيامنا.؟!
ـ ثقي, لو أنهم يستحقون لذهبت, لكنك الآن في نطاق حضوري ال.. يهديك أنفاسي النقية عساك تنفذين من كثافة الحزن.
ـ لكنني أشد احتياجاً للحزن.. ربما اقبل نصائحه تكفيراً لذنبي كوني أخترت له قلبي الصغير أمام سواده.
ـ آه عليك أيتها المسكينة لا أرى أحداً يستحق أن يسكن قلبك ما لم تملئين عالمه.
ـ ولا أنت..؟
ـ ولا أنا.
ـ ما أجمل ما تقول.
ـ أتَشَكَّلُ جمالك.
ـ لستُ بما تقول!!
ـ أكثر..
............
............
ـ أين ذهبت..؟
ـ ما زلت.. لكن الحديث أخذنا ولم أعرف أسمك..؟
ـ "غياهب"
ـ اسمك جميل.!
ـ لعلك تجاملني.. وأنا ما عدت أطيق لطفاً ولا أكترث لمجاملة.
ـ تريثي عزيزتي.. لا تكوني أنت والزمن عليك..
امنحيني الفرصة لأطفئ هذه الحمم التي تغتال أنوثتك.
ـ دعني وحممي, براكيني, رمادي, مالك واحتراقي.؟!
....... .......... ............. .........
مد النسيم يده ومسح عن خدها تلك الدمعة التي تلظت بنار اعماقها فتركت له أنفاسها وأناخت روحها للمسته الحانية.., أزاحت شيئاً من الحزن عن وجهها وهي تخاطبه:
ـ كنت أتوسلك الحضور لكنك ـ مضمراً ـ تغض اللقاء..
لِمَ تركتني للعواصف تسحقني تحت حوافرها..؟
ـ اعذريني سيدتي ما توقعتك بهذا الانهيار, ثم إنني لم أكن أدرك أن حضوري سيرمم روحك.. يا إلهي, كم أنا قاسٍ وكم هو الليل مؤلم مالم يقاسمنا رضاه.!
ـ لا تكثر من التأوه غير المجدي.. تعال إلي.. اقترب مني.. أكثر أكثر.. دعني أداعبك, ألتهمك, أغسل بهميلك غرف أعماقي التي ما برح اليأس يعاود اجتياحها مذ تركتني له.
يا وحياً من سماء الصفاء هاك أنا.. ضمني إليك.. قف بجوار قلادتي وصل في محرابك الذي هجرته منذ زمن موغلاً في النسيان.. خاصرني, حاصرني, اجتحني وبث في كياني لواعج الشوق وعنفوان الرغبة, حطم الأسوار التي تقف بينك وجنوني.
........... ............ ............ ............ ............ ..............
بدت علامات الدهشة والذهول على محياه, وبدأتُ أستجدي قواي للتخلص من تلك الأغلال الجليدية التي باتت تصلبني الى جذع النخلة.., رائحة البرد تختلط بدمي.., لا أدري لماذا أحس بحاجة لأن أختبئ, أنسل, أهرب, أترك المكان.., لا شيء لي هنا.. لكنني أتلفت حولي, أتخبط وأهوي, أركض خلفي.., ثملٌ أحاول دفن جثتي التي عجزتُ عن إخفائها.., مازلت وحيداً هنا.. وحيداً كالموت.. متعباً كالوجع.., أنادي رفيقي الذي استحال غياباً في مرافئ الانتظار.. فتسخر مني زهرة الليلك وتقول:
اذهب فأهل مدينتك الثائرة ينتظرونك..
كنت اقف أمامها عاجزاً.. لأكتشف ضعفي الذي ساقني إليه فرط جنوني, وكطعنةٍ غادرةٍ تمطى الجرح في أعماقي واستيقظ.., ظِل أسى تسلل إلي وأنبت ذعراً في صدري, حاولت أن أتماسك لبعض الوقت, رفعت رأسي إلى الاعلى, النسيم يرشقني بوابل من النظرات الصامتة ويقترب من غياهب, وددت أن أتحرر مني صعوداً إليه.. إليها, مازال يرمي ببصره نحوي ويقترب منها.. حتى غاب فيها, شعرت ساعتها ألاّ مكان لي هنا.. هناااك..
كان على الصبح أن يتنفس ليفك أسري وأسر ذلك السعف الذي ما عاد حرا ـ كعادته ـ يغازل حائط المبكى ويغسل بالطلول مساحة وقف البراق على بابها الغربي يرقب صمتهم.
الصبح لم يأتِ.. أنفاسه مازالت بيد الليل.. المكان تابوت من هلع ووحشة, وأنا ابحث عن أفق سري كيما أرحل عن ذاكرتي, ربما هي رغبة في الهروب من أي شيء لكنني أخشى أن اهرب منها فاهرب اليها..
لا ادري ما العمل..!
كل ما اعرفه أنني اشعر برغبة للانطلاق.. إلى اين..؟ لا اعلم..!
مازلت احدِّق في البعيد.. ثمة دخان يتصاعد.. يشتمُّني..
لكن, ما تلك الرائحة التي استنهضت روحي..؟
لعلي عاجز عن قراءتها..! تبدو قريبة من تلك الـ.. كنت استنشقها اثناء المظاهرات.
يا إلهي..: وانبرى نبضي يغني:
.... .... ..... .... .......
بدأت ذرّات الفجر تنفض عن نفسها رذاذ الليل باسطة أديمها على مدى الشمس ال.. تجفف بقايا أحلام تتمدد في مخيلة الصغار.
لم يبق أمامي إلا أن اعود إلى ساحات الثورة وميادين الحرية التي تنتظرني, وفي ضميري أخبئ حلماً صغيراً لازال ندياً لم تجففه ايادي الشمس.
منيف الهلالي
نسيم أبدي المساء 2608