إن السياسة الخارجية قبل الثورة كانت تفتقر إلى التوازن، بل وشهدت اختلالاً فادحاً في القيم وفى الأهداف وكان التحدي الأكبر لها هو تدهور الحالة الاقتصادية الذي يرجع إلى قدر من التبعية الاقتصادية والعسكرية، وافتقارها للعمل على تزكية وترسيخ الاستقلال الوطني بسياسات داعمة، وكان التحدي الآخر في المحاولة للربط بين الرخاء والسلام، ولكنها وصلت في النهاية إلى رخاء فاسد وسلام مزعوم.
إن تصريح الرئيس الأمريكي باراك أوباما بأن مصر ليست حليفة وليست عدواً, يعنى أن تعريفاً استراتيجياً جديداً سوف يظهر بالنسبة للعلاقات المصرية- الأمريكية، ومن الممكن أن يشكل هذا تغيراً شاملاً في طبيعة العلاقة بين البلدين، ومدى تأثيراتها السياسية والاقتصادية على الصعيدين الإقليمي والدولي، ومن الضروري أخذه في الحسبان.
أظهر مرسي كل ما يمكن تحقيقه في محاولته لتأسيس نفسه على انه زعيم مصر والشرق الأوسط الجديد القوي دون منازع والعقبات التي ما زالت تواجهه.. ومن المفارقات أن أبسط المهام، التي كانت السبب في الإشادة به على الساحة الدولية، التوسط لإنهاء الهجوم الإسرائيلي لمدة أسبوع على قطاع غزة في خطوة شعبية على نطاق واسع في بلده.. كما أظهرت الأيام القليلة الماضية، أن العثور على أي شيء يمكن أن يتفق عليه المصريون هو المهمة الصعبة, متمثلة في بناء مؤسسات ديمقراطية جديدة.
تم تغليف الأزمة المتصاعدة بمجموعة من القرارات التي أعلنها مرسي يوم الخميس, فقد منح نفسه سلطات واسعة النطاق، الأمر الذي حول أشهر من الاستقطاب المتنامي إلى معركة مفتوحة بين الإخوان والليبراليين خوفاً من انه يخطط دكتاتورية جديدة وأثارت هذه القرارات غضب الكثير من المصريين, واعتبرها القضاة "هجوماً غير مسبوق على استقلال السلطة القضائية".. وسواء كان ينوي الإبقاء على صلاحياته الجديدة أم لا، الواضح الآن هو أن مرسي يجد أن حكم مصر في غمرة تحول سياسي معقد, متحديا ومحبطا بشدة على حد سواء.
اشتبك أنصاره ومعارضوه يوم الجمعة، في أسوأ أعمال عنف منذ تولي مرسي منصبه هذا العام، في جميع أنحاء مصر، مما اضطره للدفاع عن قرار تسليم نفسه سلطة شبه مطلقة للقضاء على ما وصفه بـ"السوس ينخر في مصر ".. والواقع، ومع ذلك، هو أن الإجراءات التي قام بها مرسي يوم الخميس قد تكون علامة على ضعفه, لأنه يواجه مشاكل في مصر، بقدر ما يدل على محاولة لجمع المزيد من السلطة للتعامل معهم، وليس أقلها التعامل من القضاء الممتلئ بالشخصيات من عهد مبارك التي تواصل منع التحول الديمقراطي.
إن الرئيس مرسي وضع منذ اليوم الأول معياراً أساسياً للحكم على نجاح الجهد القومي، في أن يجد المواطن قوت يومه ومسكناً يؤويه، وأن يكون آمناً على نفسه ومطمئناً على مستقبلة.
إن الرؤية المستقبلية ومصالح مصر العليا والإصرار على الاستقرار والثبات, كان الركيزة الأساسية في انطلاق مسيرة الثورة وفى إتاحة الفرصة كاملة للمسيرة الديمقراطية أن تنمو وتتقدم وهناك إجماع أن سياسة الرئيس مرسي الداخلية والخارجية نجحت في بداية تعبئة كافة الموارد الداخلية والخارجية في خدمة قضية الإنتاج ودفع عجلة التنمية، والحرص على سيادة القانون، وتأكيد الديمقراطية والحفاظ على الاستقرار السياسي، وإعلاء المصلحة الوطنية والالتزام بطهارة الحكم والعدل الاجتماعي وأجمع الشعب على حتمية استكمال مسيرة الثورة في تحقيق العيش والحرية والعدالة الاجتماعية والديمقراطية والتنمية والاستقرار وحماية الأمن الوطني.. إن "المقصود بالتحدّي الاقتصادي، هو المعضلة أو المشكلة الصّعبة في الاقتصاد، والتي تحتاج إلى حلول عملية تتناسَب مع حجم المشكلة.
إن هناك ثلاث معضلات كبرى تواجه الرئيس مرسي هي: "الدين العام وعجز الميزان التجاري المزمن واختلال العلاقة بين الادخار والاستثمار".. إن التحدي الاقتصادي الذي تعاني منه مصر، يمكن حصره في ثلاثة مشكلات:
أولها: "الدين العام"، وهو عبارة عن: دين محلي والمقصود به الدين الحكومي الداخلي.. ودين خارجي: والمقصود به الدّين المقرّر على مصر للخارج.. إن "حجم الدين الخارجي على مصر، يبلغ 34 مليار دولار، أي ما يعادل 207 مليار جنيه"، كما أن "حجم الدّين المحلي يبلغ 1.2 تريليون جنيه، وهو ما يعني أن "إجمالي الدّين العام يبلغ 1.4 تريليون جنيه"، إن هذا الدَّين يكلف الحكومة في الموازنة سنوياً أقساطاً وفوائد.. إن جملة الأقساط السنوية تبلغ 92.5 مليار جنيه (بما فيها قِسط سداد أصل الدَّين), كما تبلغ قيمة الفوائد السنوية 134 مليار جنيه، أي أن إجمالي الفوائد والأقساط السنوية تبلغ 227 مليار جنيه، وخطورة هذا أن حجم الإنفاق في الموازنة الحكومية يبلغ 635 مليار جنيه، يُخصَم منها بداية 227 مليار جنيه، عبارة عن فوائد وأقساط، وهو ما يوازي 36% من الموازنة", فإذا كانت الحكومة تريد الإنفاق على الجسور والطرق والتعليم والصحة ودعم السِّلع البترولية (البنزين – البوتاغاز) والسِّلع التموينية وغيرها، فيُـصبِـح الباقي أقلّ من المطلوب، ومن ثم لا يمكنه التوسّع في الدّعم، فيضطر إلى الاقتراض مرة أخرى، وهكذا ندخل في الدوّامة مجدّداً..
والمشكلة التي تواجه الرئيس محمد مرسي اليوم، أنه يريد أن يفعل الكثير والكثير، بينما لا يجد أمامه سوى 56 مليار جنيه من الموازنة.. إنها معضلة صعبة للغاية، فالدَّين يزيد ولا ينقُص، وحجم الإنفاق في الموازنة يبلغ 635 مليار جنيه، بينما حجم الإيراد العام يبلغ 407 مليار جنيه.. إذن لابد أن يقترض الرئيس 228 مليار جنيه، حتى يمكنه أن يسدّ العجز في الموازنة العامة.
إن "المشكلة الثانية التي تواجه الرئيس في الملف الاقتصادي، هي: الميزان التجاري المعتلّ (عجز الميزان التجاري المزمن)، وهو ما يعني ببساطة أن الواردات أكبر من الصادرات، إذ بينما تستورِد مصر بـ 54 مليار دولار، فإنها تُـصدِّر بـ 28 مليار دولار فقط، بمعنى أن الصادرات لا تغطي الواردات وأن هناك ضغطاً على الجنيه المصري، بحيث يقل سِعر صرف الجنيه.. فإذا كان احتياطي النقد الأجنبي سيقل، فهذا يمكن تعويضه بتحويلات العاملين بالخارج والصادرات الخدمية.
إن المشكلة الثالثة التي تواجه الرئيس هي: اختلال العلاقة بين الادِّخار والاستثمار, فالمفترض أن المجتمع يدَّخر، فتكون في البنوك فوائض يتم استثمارها, لكن الواقع يقول، إن المدَّخرات قليلة، ومن ثم، فإنها لا تكفي للاستثمارات، وهذا يعني عدم توفير فُـرص عمل.. هذه هي المحظورات الثلاثة التي تمثل التحدِّي الاقتصادي، والتي تواجه الرئيس محمد مرسي.
إن الحل هو تضافر جهود جميع المصريين لمواجهة ومكافحة الفساد بكافة صوره وأشكاله، لأنه لا يمكن لشخص بمفرده أن يعيد مصر إلى صفوف الدول المرموقة، ويعيد إليها قدرها ومكانتها.. إنه لابد من معالجة كافة المشاكل الاقتصادية الداخلية التي تعد بدورها وآثارها السلبية السبب الرئيسي في تراجع صانعي القرار للسياسة الخارجية المصرية.
ومن جهة أخرى، اتفق المشاركون على أن الفترة الراهنة في مسار السياسة الخارجية المصرية، بل والنظام المصري، تعد هي في مرحلة التشكيل والتطوير، وإن كانت هناك بعض المؤشرات، ولكنها لا ترقى لمستوى خطة استراتيجية واضحة لطبيعة السياسة الخارجية، بالإضافة إلى أن تغير الوضع الإقليمي والعربي الراهن فرض العديد من المسارات والعلاقات التي يتوجب على صانعي القرار الخارجي المصري أن يضعوها في الحسبان بشكل واضح، وتحديد نمط من العلاقات تضع مصر في مكانتها الدولية والإقليمية والعربية والإفريقية، التي افتقدتها على مر سنوات طويلة.
كاتب مصري دكتور في الحقوق وخبير في القانون العام
د. عادل عامر
التحديات التي تواجهه الرئيس مرسي 2532