إن الاضطهاد والكيد إذا وصل إلى غايته، ووصل التعذيب إلى ذروته، دون أن يكون في يد المضطهدين ما يدفع الاضطهاد عنهم، ويرفع التعذيب عن أتباعهم، فإن ذلك يعني توقع التدخل من السماء، لتصحيح الشأن وتغيير الوضع وإنصاف المظلومين، وإذا غيرت السماء الأوضاع فقد يكون التغيير جذريًّا وفي أعظم أحداث الحياة، إذ من الممكن بناء على هذا التغيير أن تسقط دول وأن تقوم أخرى، وأن تزول أنظمة وتبقى أخرى، ويفنى صاحب منصب ويرثه آخر، وأن يصبح علية القوم أسافلهم، ويصبح أسافلهم عليتهم، أن تتغير الأوضاع وتتغير الأماكن وتتغير المناصب، فيصبح الصف الأول آخرًا، ويصبح الآخر أولاً، ويصبح الحاكم محكومًا والمحكوم حاكمًا، والخادم مخدومًا والمخدوم خادمًا، ويصبح المبعد مقربًا والمقرب مبعدًا، ويصبح المنبوذ محبوبًا والمحبوب منبوذًا، ويصبح الضعيف قويًّا والقوى ضعيفًا، وهكذا تحدث التغييرات الجذرية بتدخل السماء، إذا ما وصل السيل في الاضطهاد إلى الزبا، وفاض من العنت والاضطهاد الكيل، وهذا ما حدث في هجرة محمد صلى الله عليه وسلم وهجرة موسى عليه السلام.
أما هجرة محمد صلى الله عليه وسلم، فإننا لا نحتاج إلى أدلة لإثبات ضعفه قبل الهجرة، وأنه خرج من مكة منبوذًا مطاردًا، ضعيفًا لا يقوى على مهاجمة عدو، بل ولا يقوى على مجرد استعمال حقه في الدفاع عن نفسه، ولعل هذا هو السر في خروجه من بيته خفية، وقد ألقى الله النوم على من تربص به أمام بيته يريد الفتك به وتصفيته، حتى تنتهي دعوته ويستأصل دينه، وهو السر أيضًا في اختبائه بغار حراء لمدة ثلاثة أيام، وأعداؤه من حوله يفتشون الجبال والهضاب وينزلون الأودية والكهوف ويرصدون المكافئات والجوائز لمن يعثر عليه صلى الله عليه وسلم، ويأتي به حيًّا أو ميتًا، نعم لقد كان في غاية الاستضعاف أمام أعدائه الذين هم في غاية القوة والجبروت، ولما وصل الاضطهاد إلى غايته وأذن الله له بالهجرة، تدخلت السماء فأنقذته من بين براثنهم، وخلصته من تعذيبهم واضطهادهم، وترتب على ذلك تغيير الأوضاع بالكلية، فأقام الله به دولة وأذهب به للأعداء أخرى، لقد ذهب إلى المدينة وأقام لدينه دولة عريقة، تواجه الطغيان وترد العدوان، وتقوى على مواصلة الجهاد في سبيل الله سرية بعد أخرى، وغزوة بعد أختها؛ لأن القوة باتت بإذن الله عنده، وحسم الأمور بات في يديه، ولا ننسى وضعه وقوته بعد مجيئه من غزوة الأحزاب، إذ بعد أن رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَة وَوضع الْمُسلمُونَ سِلَاحهمْ، أَتَاهُ جِبْرِيل صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صُورَة دحْيَة بن خَليفَة الْكَلْبِيّ على بغلة عَلَيْهِ قطيفة ديباج فَقَالَ لَهُ: يَا مُحَمَّد إِن كُنْتُم قد وضعتم سلاحكم فَمَا وضعت الْمَلَائِكَة سلاحها، إِن اللَّه يَأْمُرك أَن تخرج إِلَى بني قُرَيْظَة وَإِنِّي مُتَقَدم إِلَيْهِم فَمُزَلْزِل بهم.فَأمر رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مناديا يُنَادي فِي النَّاس: "لَا يصلين أحدكُم الْعَصْر إِلَّا فِي بني قُرَيْظَة". وهكذا بلغ النبي من القوة بحيث أن غزوة الأحزاب لم تجهده، وبقي مواصلاً الرباط والجهاد مع أصحابه رضوان الله عليهم حتى تزلزلت بهم بنو قريظة.
وهكذا تتغير الأمور عندما تتدخل السماء بزاوية تصل إلى مائة وثمانين درجة، وإذا كان النبي قد خرج منبوذًا مطرودًا مكروهًا من أهل مكة، فبعد أن وصل الاضطهاد إلى غايته أبدله الله عز وجل بذلك حبًا من أتباعه لا نظير له، حبًا يكاد أن يجمع عليه في دولته البشر والشجر والحجر، وهذا ما شهد به الأعداء قبل الأصدقاء، ومنهم أَبُو سُفْيَانَ قبل أن يسلم حين وقف أمام زَيْد بْن الدَّثِنَّةِ، وقد أجمع المشركون على قتله، قائلاً له: أَنْشُدُكَ اللَّهَ يَا زَيْدُ، أَتُحِبُّ أَنَّ مُحَمَّدًا عِنْدَنَا الْآنَ فِي مَكَانِكَ نَضْرِبُ عُنُقَهُ، وَأَنَّكَ فِي أَهْلِكَ؟ قَالَ: وَاَللَّهِ مَا أُحِبُّ أَنَّ مُحَمَّدًا الْآنَ فِي مَكَانِهِ الَّذِي هُوَ فِيهِ تُصِيبُهُ شَوْكَة تؤذيه، وأنّى جَالِسٌ فِي أَهْلِي. فقال أَبُو سُفْيَانَ: مَا رَأَيْتُ مِنْ النَّاسِ أَحَدًا يُحِبُّ أَحَدًا كَحُبِّ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ مُحَمَّدًا.
وإذا كان هو درس الهجرة عند نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فهو نفس الدرس أيضًا عند نبي الله موسى حينما خرج من بلده مصر تحت ضغط طغيان فرعون، وبعد أن وصل الكيد والاضطهاد إلى غايته، حتى قال الله عنه: " إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ" (القصص:4)، بل وصل الاضطهاد إلى صورة لا تقبل المزيد حين تطاول على الله ذاته وجاء عنه: " وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحًا لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ" (القصص:38)، عندئذ تدخلت السماء، وكان التدخل جذريًّا؛ حيث أغرق الله فرعون وقومه وأزال دولته، وكتب النجاة لموسى ومن معه لنشر دعوته، بطريقة لا يقدر عليها أحد إلا الخالق سبحانه جلت قدرته.
وذلكم عندما ضاق الخناق على موسى ومن معه أوحى الله إليه أن اضرب بعصاك البحر، فانفلق البحر وصار كل فرق كالجبل العظيم، مكفوفا عن السيلان بالقدرة العظيمة الصادرة من الذي يقول للشيء كن فيكون، وقد سجل الله هذا التحول الرهيب فقال: "فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ" (الشعراء:63)، بل صار الطريق لموسى في البحر يابسًا حتى لا يعلق الطين في سنابك الخيل والدواب، وسجل ذلك المولى أيضًا جلت قدرته فقال: "وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لَّا تَخَافُ دَرَكاً وَلَا تَخْشَى" (طه:77)، ولما جاوز موسى ومن معه البحر، خشي أن يبقى الطريق سالكًا لفرعون، فهم ليضرب البحر مرة أخرى ليعود كما كان قبل أن يدخله فرعون إذا بالله تعالى يوحي إليه مرة أخرى حتى يصل القدر الذي كتب الله به زوال هذه الدولة الظالمة إلى نهايته فقال له: "وَاتْرُكْ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ" (الدخان:24)، وزال بقدرة الله عز وجل من كان يقول في وضح النهار: " أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى" النازعات:24.
ونعتقد أنه ما قامت دولة الإسلاميين في مصر، وزالت دولة المخلوع حسني مبارك، إلا في ضوء هذه القاعدة، أنه حين يصل الكيد والاضطهاد والظلم إلى غايته، ولم يعد في يد المظلوم شيء يدفع به عن نفسه، تدخلت السماء، ولا نحسب التمكين للدين على يد الإخوان اليوم إلا من قبل السماء، ويقترب ما حدث اليوم في صالح الإخوان لما حدث لصالح موسى ومن معه؛ لأن أعظم الإنسانية خيالاًً إذا وصل إلى حالة "التخريف" في خياله قبل الثورة، فلن يصل إلى جعل ما حدث مجرد خيال أو خرف، فهو في غاية البعد عن الخيال، يكاد يكون مستحيلاً، لكنه بحمد الله أصبح واقعاً، ولا يفسر ذلك إلا تدخل السماء، "فسبحان من أزال حسني وأتى بمرسي".
ومن ثم فإننا نقول للمتربصين بهذه الدولة الوليدة، ومن يترصدون للجنة التأسيسية أو من يستغلون الأحداث هنا أو هناك، ولمن لا تروق لهم القرارات الرئاسية الأخيرة، ماذا ستفعلون مع هذا القدر الجارف، ومع هذه القدرة المطلقة التي أذهلت العالم أجمع، وفروا جهودكم فإن أعمالكم:
كناطح صخرة يومًا ليوهنها فلم يضرها ولكن أوهى قرنه الوعل
* الأستاذ المشارك بجامعة الأزهر وجامعة البحرين
Mdaoud_2004@yahoo.com
د. محمود السيد داود
تغيير الدول وتبديل الأنظمة حين المبالغة في الكيد على ضوء الهجرة 1720